• ×

ملامح من مكة المكرمة في القرن الخامس الهجري

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
ملامح من مكة المكرمة في القرن الخامس الهجري


ندين للرحالة الأوائل بفضل معرفة تاريخ كثير من الأماكن الهامة والتي سجلت عدسة ذاكرتهم الأحداث التي حصلت فيها وسطرت أقلامهم وصفاً لوقائع هذه الأحداث والمدن التي زاروها فقدموا وصفاً لعمائرها وشوارعها ومبانيها ومعاشها وأهلها وملابسهم وعاداتهم وغير ذلك في وقت لم يعرف فيه التلفاز أو السينما او حتى المذياع. ولولا هؤلاء الرحالة المؤرخون لغاب كثير من تاريخنا وتاريخ هذه الأماكن الهامة. وتأتي مكة المكرمة في مقدمة الأماكن التي سجل الرحالة تاريخها ومن هؤلاء كان الرحالة ناصر خسرو علوي صاحب كتاب \" سفرنامه \" والذي قام الدكتور يحيى الخشاب بترجمته إلى اللغة العربية وصدرت هذه الترجمة للمرة الأولى في القاهرة عام 1943م ثم صدرت الطبعة الثانية في عام 1993م والتي قام بتقديمها الدكتور عبدالوهاب عزام وكان هؤلاء الرحالة يتنقلون بين أطراف العالم الإسلامي الواسع والذي كانت بلاده متصلة بعضها ببعض وكان من أهم رحلاتهم رحلات الحج وزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان كثير ممن يذهب في رحلة الحج أو غيرها يصف ما شاهد. ويحدث بما رأى وثبتت أخبار كثير من الرحلات في كتب التاريخ. كما أن بعض الرحالة قاموا بتسجيل رحلاتهم في كتب خاصة بهذه الرحلات لعل من أشهرها رحلة ابن جبير وسميت بعض هذه الكتب بالرحلات وهي في جملتها وصف لإسفار كاتبيها وما شاهدوه من أراضي وبلاد ودول ومن قابلوا من ملوك وعلماء وغير ذلك. ويذكر الدكتور عبدالوهاب عزام في تصديره للترجمة العربية لـ \"سفرنامه\" ان أقدم الرحلات المعروفة هي \" رحلة ابن فضلان رسول الخليفة المقتدر بالله العباسي إلى بلاد البلغار القديمة وكانت على نهر اتل الفلجا\" ويقول عزام أن ياقوت نقل فصل من هذه الرحلة في معجم البلدان وأن هذه الرحلة كانت في القرن الثالث الهجري.
ولا شك أن رحلة ابن جبير ورحلة أبي الحسن الهروي الموصلي في القرن السادس الهجري ورحلة البلوي المغربي وابن بطوطة في في القرن الثامن الهجري كانت من أشهر الرحلات.
وقد اختلف المؤرخون في تحديد تاريخ رحلة ناصر خسرو الهامة ، فرجح شيفر أنها كتبت قبل عام 453هـ/1060م لان ناصر خسرو يشير في كتابه على نصر الدولة والذي توفي في ذلك العام. أما تقي فراده فانه يعتقد أن الرحلة كتبت بعد سنة 455هـ/1063م لان خسرو يذكر طغرل بيك على انه متوفي.
وكان صاحب الرحلة اميناً في كتاباته حيث يذكر الدكتور يحى خشاب انه كان \" إذا رائ شيئاً رأي العين نص على ذلك نصاً ، وإذا سمع عن شيء رواه وجعل العهدة على الراوي\" وقد قسم الخشاب الرحلة على ثلاث مراحل كما يلي:
المرحلة الأولى تبدأ بقيامه من مروا في ربيع الثاني سنة 437هـ(أكتوبر 1045)
وتنتهي ببلوغ خسرو القاهرة في 7 صفر سنة 439هـ (4 أغسطس 1047م)
المرحلة الثانية: إقامته في مصر من 7 صفر سنة 439هـ (4 أغسطس 1047م) أي أواخر جماد الثاني 442هـ (أواخر أكتوبر 1050م)
المرحلة الثالثة : عودته إلى بلخ بعد أن حج مروراً بالحسا والبصرة وتبدأ هذه المرحلة منذ قيامه من مصر وتنتهي في 26 جماد الاخر 444هـ (26 اكتوبر1052م)
ويصف خسرو في \" سفرنامة\" مكة المكرمة فيقول:
\" تقع مكة بين جبال عاليه ، ولا ترى من بعيد ، من أي جانب يقصدها السائر ، واقرب جبل منها هو جبل أبي قبيس ، وهو مستدير كالقبة ، لو رمى سهم من أسفله لبلغ قمته. وهو شرقي مكة\"
كما يستمر ناصر خرو في الوصف قائلاً : \" وتشغل هذه المدينة الوادي الذي بين الجبال والذي لا تزيد مساحته عن رميه سهمين في مثلها ، والمسجد الحرام وسط هذا الوادي ومن حوله مكة والشوارع والاسواق.
وحيثما وجدت ثغرة بين الجبال سدت بسور قوي وضعت عليه بوابة , ولم يكن عندئذٍ بمكة شجر أبداً إلا عند الباب الغربي للمسجد الحرام المسمى باب إبراهيم حيث يوجد كثير من الشجر الكبير الذي يرتفع على حافة البئر\" ويستطرد خسرو في وصف مكة قائلا \"عند الجانب الشرقي للمسجد سوق تمتد من الجنوب إلى الشمال , وفي أولها ناحية الجنوب جبل أبي قبيس \" ويذكر خسرو أن كثير من المنازل قد شيدت على بعض الجبال . ثم يصف ما يفعله الحاج عند دخوله البيت الحرام من طواف وسعي وتلبية وصلاة . ويقول أن الحاج عندما ينزل من جبل المروة بعد أن ينهي سعيه \" يجد سوق بها عشرون دكاناً متقابلة , يشغلها جميعاً حجامون لحلق شعر الرأس \" . ويكمل قائلاً \" وحين يتم الحاج شعائر العمرة ويخرج من المسجد الحرام , يدخل السوق الكبيرة التي تقع ناحية الشرق والمسماة سوق العطارين , وهي سوق جميلة به بنايات وبها عطارين\" .
ويخبرنا خسرو أنه كان بمكة \"حمامان بلاطهما من الحجر الأخضر السنان \" . وقدر خسرو أن سكان مكة, القاطنون بها أبان زيارته لها \"لا يزيدون على ألفين \" ويقول أن الباقي \" ويقربون خمسمائة \" من الغرباء والمجاورين \" . وقال خسرو عن الماء في مكة انذاك أن \" ماء أبار مكة صالح ومر لا يستاغ شربه , ولكن بها كثيراً من الأحواض والمصانع الكبيرة , بلغت تكاليف الواحد منها أكثر من عشرة ألاف دينار . وهي تملأ من ماء الأمطار الذي يتدفق من الأودية \" . وتحدث عن بئر يسمى بئر الزاهد وقال أن \" عنده مسجد جميل \" وقال أن ماء هذا البئر عذب ويحمله السقاءون إلى مكة لبيعه .
وذكر خسرو أن تلك الزيارة كانت زيارته الرابعة لمكة المكرمة وأنه جاور بها من غرة رجب 442هـ (10نوفمبر1050م ) إلى العشرين من ذي الحجة من نفس السنة (3 مايو 1051) . وتحدث قائلاً أن العنب قد أثمر بها خلال مارس ابريل وأن البطيخ كان متوفراً في الفترة ابريل - مايو وقال أن الفاكهة كانت \" متوفرة طول الشتاء فلم تنقطع قط \" كما ذكر أنه رأى الخيار والأترنج والباذنجان في الفترة من يناير فبراير وأنها كانت طازجة .
وقد وصف خسرو المسجد الحرام وصف دقيق وتحدث عن أطواله وأبوابه وعن سقفه وذكر أن بالمسجد \" أربعة وثمانون وأربعمائة عمود من الرخام قيل أنها كلها , أرسلت من الشام عن طريق البحر \" . وتحدث عن عامود من الرخام الأحمر قال أنه \" وضع عند باب الندوة , قيل أنه أشتري بوزنه ذهباً \"
وذكر خسرو أن للمسجد في وقته \" ثامنية عشر باباً , عليها طيقان مقامة على عمد من الرخام , وصفت بحيث لا تعوق فتح الأبواب \" . وقام خسرو بوصف باب الكعبة المشرفة كما وصف الكعبة من الداخل , وتحدث عن بئر زمزم.
عزيزي القارئ هذه ملامح من تاريخ البلد الحرام كما سجلتها عدسة ذاكرة الراحلة ناصر خسرو علوي عندما زارها قبل حوالي ألف عام في القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي .

بقلم

الدكتورعدنان عبدالبديع اليافي



بواسطة : hashim
 0  0  10351
التعليقات ( 0 )

-->