• ×

العصبية

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

العَصَبِيَّةُ
Tribal intolerance



كتبه
الحسين بن حيدر الهاشمي
المدينة المنورة


العصبية سُنَّةٌ طبيعية
الإنسانُ مدنيٌّ بِالطبعِ، ولذا فإنَّ نفسه تتوَّق إلى العصبية الفاضلة ، فكلُ كائنٍ حي يسير نحو عصبية بالطبع السليم. فهي أمر وجوديّ، من السنن التي يتحتم الأخذ بها، ووجودها في الفرد والجماعة أمر طبيعي فِطْري، إذ هي التي تحمي معنى الجماعة والاجتماع، كما يدل على ذلك المعنى اللغوي في العربية تماماً. وهي تكون من لُحمة النسب أو ما في معناه كالولاء والحِلف. وبخلافها فإنَّ العصبية الفاسدة تكون عَدَماً لا وجود له، شأنها شأن أي شرٍّ كما تقرر لدى الحكماء والفلاسفة .
أنواع العصبية
عصبية حميدة ممدوحة Identity. وهي مناصرة المظلوم حتى يستَّرد حقَّه، مِن غير إسرافٍ، ولا بَطَرٍ، ولا مخيلةٍ، ولا تعدي، ولا تعسفٍ في استعمال الحق. والأدلة الشرعية كثيرة ، منها قول الله تعالى (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا).
عصبية خبيثة مذمومة. وهي مُنَاصَرَة الظَّالم على ظُلمِه، أو إيواء الجاني المُحدِثِ. وكِبْرِ اَلْحَمِيَّةِ، وَفَخْرِ اَلْجَاهِلِيَّةِ، وهي المقصود بالذم في النصوص الشرعية كقوله صلى الله عليه وآله وسلم (لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ). وقال الخاسرون الظالمون (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا).
الفهم الخاطئ للشريعة
إنَّ كثيراً من الناس في مجتمعاتنا العربية يحسبون أن العصبية إنما تعني استدعاء القرابة/العَصَبَة على خَصْمٍ، لِيُعينوه ظالماً كان أم مظلوماً. ولذا فإنَّ كثيراً من العرب يستعجمون كلمة عصبية ويستنكرونها، وإن استنكروها في اللفظ دون استعمالها الذميم!، أو أن البعض لا يبيِّن الحقيقة الشرعية مغالاة منه في باب سَدِّ الذرائع. وكيف تُستعجم ومعناها في العربية يدل على الألفة والغيرة وشد الرَّحم والقرابة, وكيف تُستعجم مع أنَّ نصوصَها الشرعيَّة واضحةٌ مُبَيَّنَةٌ كقول النبي صَلى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا) فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟. قَالَ: (تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ). وكذا قول النبي صَلى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم (تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ) فهو يعني أنَّ النسب به تكون العصبية الضرورية التي توجب صِلة الأرحام من ثم تقع المناصرة والنُعرة، وما فوق ذلك فهو مستغنى عنه، إذْ النسبُ أمرٌ وهمي لا حقيقة له، ونفعه إنما هو في هذه الوُصلة والالتحام، فإذا كان ظاهراً واضحاً فإنه يحمل النفوس على طبيعتها مِن النُعْرة ، وإذا كان إنما يُستفاد مِن الخبر البعيد، فإن الوَهْمَ يضعُف فيه، وتذهب فائدته، ويصير الشُغل به مجاناً ومن أعمال اللهو المنهي عنه، ومن هذا الاعتبار معنى قول بعض الناس (النَّسَبُ علمٌ لا ينفع وجهالةٌ لا تضر)، بمعنى أن النسب إذا خرج عن الوضوح وصار من قبيل العلوم، ذهبت فائدة الوهم فيه عن النفس، وانتفت النُعرة التي تحمل عليها العصبية، فلا منفعة فيه حينئذٍ.
وبسبب هذا الفهم الخاطئ للشريعة نبذ أناسٌ تعلم الأنساب، وعدوا هذا العلم من المنكرات، ومن قبيل اللهو والعبث، والسفاهات والسخافات. ولذا فإن الفخر لا يكون بمجرد الأنساب، ولكن بخفَارَةِ الأحساب، لأن لكل إنسان نسب، وأما الحسب فالناس يتفاوتون فيه، والحسب هو الجاه الذي يكون في طبقة النسب أو في أكثر من طبقة من طبقات النسب .
كما أن بسبب هذا الفهم الخاطئ تفكك المجتمع، وانتفت الغيرة والمحاسبة فيه، في حين كانت الإنسان أينما توجه يجد الذي يوجِّهه ويزعه ويُربِّيه، ويُصحِّح له الخطأ، في بيته، وسُوقِه, ومكان عبادته، بل وفي الأماكن العامة ..
وأما قول الله تعالى (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ) فمبادرة بتيئيسهم من أن تنفعهم أنسابهم أو استنجادهم. فهو كناية عن عدم النصير، وهذا خاص بأعداء الله ولا يعني المؤمنين الصالحين، فلا يجد الكافر العصبية التي تحميه وتنفعه، ولذا قال عن المؤمنين (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)، لأن حب القرابة والعصبية الحميدة مفطور عليها الخلق، ولذا فإن الله يتفضل على عباده بهذه المنة العظيمة في الآخرة كما أوصى بها في الدنيا .
يقول الإمامُ عليُّ بن أبي طالب كرَّم اللهُ وجهه في التفرقة بين المذموم والممدوح (وَلَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ اَلْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْ‏ءٍ مِنَ اَلْأَشْيَاءِ إِلاَّ عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ اَلْجُهَلاَءِ، أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ اَلسُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَلاَ عِلَّةٌ، أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ، وَطَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ، فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَأَنْتَ طِينِيٌّ، وَأَمَّا اَلْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ اَلْأُمَمِ فَتَعَصَّبُوا لآِثَارِ مَوَاقِعِ اَلنِّعَمِ، فَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنَ اَلْعَصَبِيَّةِ؛ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ اَلْخِصَالِ، وَمَحَامِدِ اَلْأَفْعَالِ، وَمَحَاسِنِ اَلْأُمُورِ، اَلَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا اَلْمُجَدَاءُ وَاَلنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ اَلْعَرَبِ، وَيَعَاسِيبِ اَلقَبَائِلِ، بِالْأَخْلاَقِ اَلرَّغِيبَةِ، وَاَلْأَحْلاَمِ اَلْعَظِيمَةِ، وَاَلْأَخْطَارِ اَلْجَلِيلَةِ، وَاَلآْثَارِ اَلْمَحْمُودَةِ، فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ اَلْحَمْدِ، مِنَ اَلْحِفْظِ لِلْجِوَارِ، وَاَلْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ، وَاَلطَّاعَةِ لِلْبِرِّ، وَاَلْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ، وَاَلْأَخْذِ بِالْفَضْلِ، وَاَلْكَفِّ عَنِ اَلْبَغْيِ، وَاَلْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ، وَاَلْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ، وَاَلْكَظْمِ لِلْغَيْظِ، وَاِجْتِنَابِ اَلْفَسَادِ فِي اَلْأَرْضِ).
فائدة العصبية
- لابُدَّ في الحربِ والقِتالِ مِن عصبية، ولذا يُربَّى الناشئ في الدُّول الحديثة على الرُّوح القوميَّة والتفاني في الدفاع عن دولته، فتكون هذه عصبية له، فتحل هذه العصبية محل العصبية الطبيعية في نفس الناشئ. إذ أن العصبيَّةُ النِّسَبيَّة ـ والتي هي من السُنن والطبائع ـ تنافسها العصبيةُ/الروحُ القوميَّة ـ وهي عصبيةٌ غيرُ طبيعيةٍ وإنما تصطنع ـ، فالعصبية القومية هي التي يمكن تسميتها بالعصبية المدنية، وهي تكون قوية في مراحل الدولة الأولى، أما إذا بلغت الدولة مرحلة الشيخوخة والهرم فإن العصبية المدنية أو الروح القومية تأخذ حينئذ في الخفوت في النفوس، وتذكو حينئذٍ العصبية الطبيعية التي فُطِرت عليها النفوس، فعلى أي حال، متى طغت إحدى العصبيتين ـ الطبيعية والاصطناعية ـ خفتت الأخرى.
العصبية ظاهرة طبيعية لأهل النسب الواحد، وتتجلى بوضوح وبقوة في النمط البدوي من المعيشة، وتخف في النمط الحضري، وذلك لما يمتاز البدوي عن الحضري باليقظة المرهفة، والاستشعار المبكر للخطر.
- متى انفرط نسج العصبية في النفس انفرط لأجله المجتمعُ كبيرُه وصغيرُه، وتفشى فيه الفسادُ بكل أنواعه، والسيئات بكل أشكالها، فلا يجد المسيء الذي يَزَعه، ولا تجد الذي يغار على عِرضِه من أهل النسب، فالعصبية تكون تكون تارة بمثابة الحصن الحامي لأهل النسب في الداخل وفي الخارج. وتكون تارة بمثابة القوة الهجومية الرادعة للفساد الحاصل في الداخل وفي الخارج.
- العصبية تعني أن امتلاك الفرد/المجتمع لهوية تُنظِّم تفكيره، وشِفْرة تُنَسِّق أُلفَتَه، ودستور يُوجه سلوكه, فهي تجعل الكائن الحي مقهور بقانون يُصلحه ويضع له الضوابط، فبها يُحمل الناس على جادةِ المحامدِ والمكارمِ، وبها يمكن امتصاص غضب العوام، والسيطرة على طيشهم، وتنفيس القهر عنهم، فهي وازع يزع الناس عن المساوئ، شأنها شأن غيرها من روادع النفس ووزعتها العديدة. فهي مُولِّدٌ لليقظة، والحامي الفعَّال للضروريات، والحافظ للحقوق، والمذْكي للأخلاق العظيمة، والمُسيَّر للعادات، والمقنِّن للأعراف، فهي للدين وللدنيا .
ويبين ابن خلدون أن دفاع الناس لا يصدق عن أعراضهم ودمائهم وأموالهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد، لأنهم بذلك تشتد شوكتهم، ويُخشى جانبهم، إذ نعرة كل أحد على نسبه وعصبيته أهم، وما جعل الله في قلوب عباده من الشفقة والنعرة على ذوي أرحامهم وقراباتهم موجودة في الطبائع البشرية، وبها يكون التعاضد والتناصر، وتعظم رهبة العدو لهم، وبسبب العصبية أمكن للبشرية أن تعيش لآلاف السنين حياة قبلية كما أمكن لها سكنى الفيافي والقفار والتبدي عن الحواضر.
أما المتفردون في أنسابهم، الذين لا عصبية لهم، فليس بإمكانهم التبدي وسكنى القفر، لما أنهم حينئذٍ طُعْمة لمن يلتهمهم من الأمم سواهم، ولا يجدون عند الشر حمى يلوذون إليه، كما أنهم عند حصول الشر يتفرقون شَذَر مَذَر، يبغون النجاة، خيفة واستيحاشاً من التخاذل، فمن أجل ذلك فإن أصحاب المدن يستعيضون عن العصبية القبلية بعصبية أخرى، الجيرة، والقومية ..



مراتب العصبية
وكلما قَرُبَ النسب كلما كان للعصبية شِدَّة وسَوْرة، فهي في الأسرة أشد منها في العشيرة، وهي في العشيرة أشد منها في القبيلة، ولذا فإن العصبية الطبيعية على صنفين اثنين :
الصنف الأول: العصبية الخاصة/الكبرى في لفظ ابن خلدون، وهي تلك العصبية التي تكون في الأقارب القريبين وفي أهل النسب الصريح، فتكون النعرة قوية، واللُحْمة متينة، والنخوة شديدة. وهذه العصبية يسميها الحُصري بالعصبية البسيطة.
الصنف الثاني: العصبية العامة/الصغرى، وتكون لأهل النسب البعيد، ولأهل النسب الغير صريح، حيث تخف فيه النُعرة، وتضعف الحمية، وتبهت النخوة. وهذه العصبية هكذا يسميها ابن خلدون، بينما يسميها الحصري بالعصبية المركبة.



الأيدلوجيَّة العصبية
العصبية النَّسّبِيَّة.
العصبية الدِّينية.
العصبية المذهبية.
العصبية الوطنية.

آفة العصبية الحميدة
1. الدعة والترف.
2. غلبة العصبية الذميمة وطغيانها.
3. الذل والقهر.
4. الانقياد للآخرين.
5. سكنى المدن ذات الكثافة السكانية العالية، والمدن الصاخبة.
6. الأنظمة الدكتاتورية القمعية.
7. المذاهب والعقائد.
8. الروح القومية أو العصبية المدنية.

مفاسد العصبية الذميمة
تفشي الفساد الأخلاقي في المجتمع.
إيقاظ الفتن.
تضييع الحقوق وانتفاء العدل في المجتمع.
انقسام المجتمع إلى فئتين قاهرة ومقهورة.
تغلُّب الفكر المتطرف على الفكر المعتدل.

علاج العصبية الذميمة
تحرى الحق والعدل دائماً. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
العفو والصفح.
الوعي الفكري.
تقوى الله وتذكر عقوبته.
**


بواسطة : hashim
 0  0  6918
التعليقات ( 0 )

-->