• ×

إيناس الساري في حكم ثبوت النسب بالجين الوراثي

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
إيناس الساري في حكم ثبوت النسب بالجين الوراثي

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين . أما بعد : فإن الشرع الحكيم جاء محكما كاملا مبرما ، لم يدع للناس منفذ شبهة ، ولا أتاح لهم عارض شهوة ، وقد شرع للناس ما يصلح دنياهم وآخرتهم ، ومن ذلك حفظه لأنسابهم وجودا وعدما ، حيث أحاطها بسياج منيع ، وحصن منيف ، وشرع في سبيل ذلك من الشرائع ما يكفل حفظ واستقرار المجتمع المسلم ، وجعلها من ضروريات الدين ، كما أنه وضع المنهج الأسلم والأكمل للنوازل الحادثة واحتواها احتواء محكما ، فسبحان من هذا دينه وهذا شرعه وهو اللطيف الخبير وقد عرضت على أخينا الأستاذ النسابة المحقق الشريف إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير - بارك الله جهوده - كتابا كنت قد حصلت عليه من والدي الشريف أحمد بن عبد العزيز الحازمي - أمتعني الله به وأفسح له في مدته - كان قد اقتناه في ندوة نظمتها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالتعاون مع كلية الملك فهد الأمنية ووزارة التربية والتعليم ، وهذا الكتاب : " أهمية الفحوص الوراثية في قضايا النسب والقضايا الجنائية " للمقدم د. عبدالعزيز بن عبدالله الدخيل كتاب حسن نافع في بابه ، أفدت منه أيما إفادة ، وهو عبارة عن بحث مُحَكّم ، قسمه مؤلفه إلى خمسة فصول :

* فصل تكلم فيه عن الحمض النووي وماهيته ، وتاريخ علم الجينات ،

وذلك في مبحثين .

* فصل تكلم فيه عن التقنيات المستخدمة في إظهار السمات الوراثية ، وقسمه إلى قسمين .

* فصل تكلم فيه عن جوانب القوة والضعف في الفحوص الوراثية ، ونماذج من استخداماتها في القضايا الدولية .

* فصل تكلم فيه عن قواعد البيانات الوراثية ذات الصلة بالمجال الأمني وأهميتها ، وقسمه إلى مبحثين .

* فصل تكلم فيه عن الأحكام الشرعية المتعلقة باستخدام الفحوص الوراثية في قضايا النسب والقضايا الجنائية .

يلي ذلك خاتمة لخص فيها الباحث أهم ما توصل إليه من نتائج ، ثم ثبت للمراجع بشقيها : العربية ، والأجنبية.

وقد طلب مني الشريف إبراهيم الأمير أن أنظر في كتابه ما يتعلق بالاعتماد على الفحوص الوراثية أو ما يعرف بـ ( DNA ) في إثبات الأنساب البعيدة ، وأضع له ملخصا مختصرا ، فاستعنت بالله العلي القدير ، ملبيا طلب من لا أرد له طلبا ، سائلا الله العظيم التسديد والتوفيق ، مع اعترافي بالعجز والتقصير ، والله المستعان .

النقطة الأولى : تطرق الباحث إلى جوانب القوة والضعف في تقنيات فحوص الحمض النووي الوراثي ، وفيما يلي إجمال ما تطرق إليه :

1. أن جوانب القوة في الفحوص الوراثية تكون بناء على عدة مقومات أساسية يعتمد عليها من الناحيتين العلمية والعملية ، وهي :

*إثبات الكثير من الدراسات في مختلف أنحاء العالم وجود الكثير من المواقع على المادة الوراثية تدل على تفرد التركيب الوراثي لكل إنسان عن غيره من البشر .

*قوة الدلالة على إنسان ما ، بما في ذلك عند تعامل الناس فيما بينهم كلما زادت الصفات التي تميزه ، وفي تقنيات الفحوص الوراثية يمكن إيجاد خمسة عشر موقعا وراثيا يمكن تمييز الإنسان بها عن غيره .

* نتائج فحص ملايين العينات الحيوية المرفوعة من مسارح الجرائم المختلفة ، ومن السجناء ، في كثير من دول العالم ، حيث لم يثبت من خلالها تطابق عينتين مختلفتي المصدر من غير الأقارب .

* إمكانية تمييز السمات الوارثية لأشخاص مجرمين ، مما يساهم في تقدم إجراءات التحقيقات الجنائية ، وحصر دائرة الاتهام .

* إمكانية إظهار السمات الوراثية للعينات الضئيلة والمتحللة ، مما يدل على كفاءة هذه الفحوصات .

وخلاصة الأمر أن جوانب القوة لهذا العلم ظهرت من ناحيتين :

* ناحية الدراسات العلمية المتخصصة.

* ناحية التجربة المفضية إلى غلبة الظن .

2. أن جوانب الضعف التي تؤثر في قوة هذه التقنية ناتجة عن كونه عملا بشريا ، وكل عمل بشري معرض للنقص والضعف والخلل ، وهذا وارد في سائر الأدلة والبينات ، ومنها البصمة الوراثية ، وهذه العوامل التي تساهم في ضعف نتائج هذه الفحوصات كالتالي :

* حدوث الخطأ أثناء تحريز العينات ، فتوضع إحدى العينات مكان الأخرى ، وهكذا . * حدوث الخطأ أثناء نقل العينة من أنبوبة إلى أخرى داخل المختبر خلال عمليات الفحص .

* حدوث الخطأ أثناء تفسير النتائج الخاصة بالسمات الوراثية للعينة التي يتم فحصها . * كون العينة ملوثة من أكثر من مصدر .

* عدم تمكن الباحث من إظهار العدد الكافي من السمات الوراثية للعينة التي يقوم بفحصها .

* زواج الأقارب يساهم في شيوع السمات الوراثية بين أفراد المجتمع مما يصعب تمييز السمات الوارثية .

* عدم توافر أركان المقارنة الكافية عند إجراء المقارنات الوراثية ، مما يؤثر سلبا على النتائج .

* تعرض السمات الوراثية لدى بعض الأشخاص لطفرات جينية ، مما يؤدي إلى إعطاء نتائج غير حقيقية في بعض الحالات .

* قصور التقنية الحديثة في الفحوص الوراثية عن التمييز بين بعض السمات الوراثية في حالات معينة .

هذا وقد نبه الباحث إلى أن جوانب الضعف هذه لا تؤثر تأثيرا جوهريا في قوة هذه الفحوص ومصداقيتها ، خصوصا إن استخدمت فيما تصلح له ، كالقضايا الجنائية بشكل أساسي ، مع ضرورة الالتزام بالمعايير والتقتية المرعية عالميا .

ومن خلال طرحه هذا خلصت إلى أن الاعتماد على نتائج هذه الفحوص الوراثية على أنها مسلمات خطأ فادح لما يجوز عليها من الخطأ والخلل ، بشهادة المختصين هذا العلم ، وإنما يعمل بنتائجها بناء على نسب معينة يقدرها القضاة وأهل الاختصاص في هذا المجال .

النقطة الثانية : لم أقف في كلام الباحث على نقاش مطول حول صلاحية استخدام نتائج الفحوص الوراثية في الأنساب البعيدة إثباتا ونفيا ، غير أنه أفرد فصلا كاملا ضمنه طرق الشرع في إثبات الأنساب ، وجعلها هي العمدة في هذا الباب ، والفحوص الوراثية تبع لها ، ولا تنقض نتائجها ما ثبت بالشرع ، مما يدل على اعتماده على الطرق الشرعية في هذا الباب ، إذ هي طرق محكمة ، ثبتت بنصوص الوحيين الصريحة الصحيحة ، والإجماع ، وذلك كاف غاية الكفاية في إثبات أنساب الناس ، وأشار الباحث إلى أنه يمكن الاستعانة بهذه الفحوص في نطاقات معينة ، خاضعة لقواعد الشارع الحكيم ، وذلك باحتياط شديد ، وسأجمل كلامه في هذا الفصل على شكل نقاط هي كالتالي :



1. تكلم عن اهتمام الإسلام بالأنساب ، وحفظها ، والاحتياط فيها إثباتا ونفيا.

2. تكلم عن طرق إثبات الأنساب لدى جمهور الفقهاء ، وهي كالتالي :

* الفراش : ويُقْصَد به الزوجية المبنية على عقد صحيح مكتمل الشروط والأركان ، والدليل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت : اختصم سعد بن أبي وَقّاص ، وعبدُ بن زَمعَةَ في غلام ، فقال سعد : هذا - يا رسول الله - ابن أخي عُتبَةَ بن أبي وقّاص ، عَهِدَ إليّ أنه ابنه ، انظر إلى شبهه ! وقال عبد بن زمعة : هذا أخي يا رسول الله ، ولد على فِرَاشِ أبي من ولِيدَتِه . فنظر رسول الله r إلى شَبَهِه ، فرأى شبهاً بَيِّنا بعُتبَة ، فقال : " هو لك يا عبدُ بن زمعة ، الولد للفراش ، وللعاهر الحَجَر ، واحتجبي منه يا سَودَة بنت زمعة " . فلم تره سودة قط . أخرجه البخاري ومسلم .

* الاستلحاق : ويقصد به إقرار مكلف بنسب مجهول النسب ، وله شروط قررها الفقهاء هي :

· أن يكون المُقِرُّ مكلفا مختارا في إقراره .

· أن يكون المُقَر به مجهول النسب ، وأن لا يكذب إقرار المقر بالنسب .

· أن لا ينازعه فيه منازع ، لأنه إن نازعه غيره تعارضا ، فلم يكن إلحاقه بأحدهما بأولى من الآخر .

· أن يمكن صدقه ، بأن يحتمل أن يولد مثله لمثله . وإن كان الإقرار عليه وعلى غيره كأخ له ، اعتبرت الشروط السابقة ، وزيد فيها :

· كون المقر جميع الورثة .

· أن لا يكون الملحق به النسب قد انتفى بلعان .

· أن يكون الملحق به النسب ميتا لا حيا ، فإن كان حيا فلا بد من إقراره بنفسه ، على أن إقرار بعض الإخوة بأُخُوّةِ مجهول نسب لا يكون حجة على باقي الإِخوَة ، ولا يثبت النسب ، وآثار الإقرار مقتصرة على المُقِرّ .

* الشهادة : ويقصد بها شهادة العدول بصحة ادعاء مدعي النسب . وشرط الشهادة أن تكون من رجلين عدلين لإثبات النسب .

* القِيَافة : ومنه القائِف ، وهو شرعا : من يتتبع الأثر ، ويتعرف منها على الذين سلكوها ، ويعرف شبه الرجل بأبيه وأخيه ، ويلحق النسب عند الاشتباه بما خصه الله به من علم ، وفي هذه الطريقة خلاف بين الفقهاء ، بيد أن القائلين بجوازها استدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين ، قالت : ( دخل علي رسول الله r ذات يوم وهو مسرور ، فقال : " يا عائشة ! ألم تري أنّ مُجَزِّزاً المُدلِجيَ دخل عليّ ، فرأى أسامة بن زيد ، وزيداً ، وعليهما قَطِيفةٌ ، قد غطَّيا رؤوسهما ، وبدت أقدامهما ، فقال : إنّ هذه الأقدام بعضها من بعض " . أخرجه البخاري ومسلم .

ولقبول القيافة شروط نص عليها الفقهاء وهي :

- أن يُعتمد قول أهل الخبرة والمعرفة ، في الأمر الذي يكون فيه التخاصم .

- أن يكون القائف مسلما ، مكلفا ، عدلا ، ذكرا ، سميعا ، بصيرا ، عارفا بالقيافة ، مجربا في الإصابة .

- أن لا يكون هناك نص ، أو حكمٌ قاضٍ ، كلِعانٍ ونحوه ، فلا يُعتَمَدُ قول القائِف حال وقوع اللّعان . والدليل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما : أنّ هِلال بن أُمَيّة ، قذف امرأته عند النبي r بشَرِيكِ بن سَحمَاء ، فقال النبي r : " البَيّنَةَ أو حَدٌّ في ظَهرك " . فقال : يا رسول الله ! إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ، ينطلِقُ يلتَمِسُ البينة ؟ . فجعل النبي r يقول : " البينة ، أو حد في ظهرك " . فقال هلال : والذي بعثك بالحق ، إني لصادق ، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد . فنزل جبريل ، وأنزل عليه : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ... } ، فقرأ حتى بلغ : { ... إن كان من الصادقين } . فانصرف النبي r ، فأرسل إليها ، فجاء هلالٌ فشهد ، والنبي r يقول : " إن الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ؟ " . ثم قامت فشهدت ، فلما كانت عند الخامسة ، وقّفُوها ، وقالوا : إنها موجِبَةٌ . فقال ابن عباس : فتَلَكَّأَت ، ونَكَصَت ، حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضحُ قومي سائرَ اليوم . فمَضَت . فقال النبي r : " أَبصِرُوها ، فإن جاءت به أكحَلَ العَينَينِ ، سابِغَ الأَليَتَينِ ، خَدَلَّجَ السّاقَين ، فهو لشَرِيكِ بن سَحمَاء " . فجاءت به كذلك . فقال النبي r : " لولا ما مضى من كتاب الله ، لكان لي ولها شأن ". أخرجه البخاري ومسلم .

فلم يُعمِل رسول الله r الشُّبَه ، لوجود الحكم المانع ، وهو اللّعان .

* القُرعة ، وهي وإن كانت من طرق إثبات النسب ، إلا أن فيها خلافا مشتهرا بين الفقهاء ، ولا يُصارُ إليها إلا عند تَعارُضِ بيّنَتَين ولا مُرَجّح .

3 . تكلم الباحث عن طُرق نفي النّسَب في الشرع ، وبيّنَ أنّه لا سبيل لذلك شرعا إلا باللّعان . واللّعان : شهاداتٌ مغَلَّظَةٌ بأَيمانٍ بين الزوجين مقرونةٌ بلعنٍ وغضب . وله شروط :

* أن لا يكون إلا أمام القاضي .

* أن يكون بمَحضَرِ جماعة من المؤمنين ، وذلك لانقطاعِ نسب الولد.

* أن يكون على صفة مخصوصة .

* أن يكون الزوجان مكلفان .

* أن لا يؤخر الزوج نفي الولد حال علمه بالتهمة إلا لعذر .

* أن يكون الزوج غير مكره عليه .

* أن يقذف زوجته بالزنى فتكذبه .

* أن يكون بأمر الإمام أو نائبه .



4. تكلم عن إثبات النسب ونفيه اعتمادا على نتائج الفحوص الوراثية ( DNA ) ، حيث توصل لنتيجةٍ مفادها أن الاستعانة بها في إثبات النسب في الحالات التي يجوز فيها الحكم بثبوت النسب بناء على قول القافة أمر ظاهر الصحة والجواز ، بناء على أنّه إذا جاز ثبوت النسب بقول القافة فالحكم بنتائج الفحوص الوراثية في نسبٍ ما مساو لأحكام القافة إن لم تكن من باب أولى ، على أن الفحوص الوراثية تتميز بالدقة وأُسُسٍ علمية يمكن الرد إليها عند الاختلاف ، شرط أن تراعى فيها الشروط والضوابط لضمان صحة النتائج .

قال ابن القيم رحمه الله : ( وأصول الشرع وقواعده والقياس الصحيح يقتضي اعتبار الشَّبَه في لحوق النسب .... إلى أن قال : فلا يُستبعدُ أن يكون الشَّبَه الخالي عن سبب مقاومٍ له كافيا في ثبوته ) أ.هـ. انظر الطرق الحُكمِيّة في السياسة الشرعية .

وخلص الباحث كذلك إلى إمكانية الاستفادة من نتائج الفحوص الوراثية في إثبات الأنساب في الحالات التالية :

* عند التنازع على مجهول النسب ، بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء ، سواء كان التنازع بسبب انتفاء الأدلة ، أو تساويها ، أو كان بسبب الاشتراك في وِطء الشبهة . * عند الاشتباه في المواليد في المستشفيات .

* عند ضياع الأشخاص ، واختلاطهم بسبب الحوادث أو الكوارث ، أو في حالات قتلى أو أسرى الحروب وتعذر معرفة أهلهم وذويهم ، أو في حال وجود جثث مجهولة الهوية لا يمكن التعرف عليها .

* حالات الانتساب إلى القبائل أو الأشخاص الميتين ، حيث يجوز للجهات المختصة التي تباشر هذه الحالات أن تحيل هذه القضايا للفحوص الوراثية لتكون الفيصل نفيا وإثباتا . كما بيّن أن الاعتبار الشرعي للفحوص الوراثية لا يتأتى إلا بشروط لازمة فيمن يباشر هذه الفحوص ، وأماكن إجرائها ،

ومن هذه الشروط :

· أن يكون المباشر لتلك الفحوص مسلما عدلا صادقا أمينا ، واشترط بعض الفقهاء تعدد المباشرين ، خصوصا في قضايا النسب .

· أن يكون من أهل الخبرة والمعرفة ، مشهودا له بالإتقان ، مجربا في الإصابة .

· أن تكون مختبرات الفحوص الوراثية ملتزمة بالضوابط العلمية والمعملية العالمية ، وأن تكون تابعة للدولة أو تحت إشرافها المباشر .

· أن يتم توثيق جميع خطوات الفحص ، بدءا من رفع العينات حتى كتابة النتائج التي يتم الوصول إليها ، وأن يتم عمل الفحوص الوراثية بطرق متعددة وبإظهار أكبر عدد من السمات الوراثية .

كما بيّن الباحث ما يتعلق بالأخذ بنتائج الفحوص الوارثية في مجال نفي النسب ، إذ أشار إلى أن من قواعد الشريعة الغراء أن الأنساب الثابتة شرعا بإحدى الطرق التي بينها الفقهاء ، لا يجوز نفيها مهما ظهر من علاماتٍ تدل على انتفائها ، وذلك قطعا للشكوك وحفظا للأنساب ، وكذلك الحال فيما يتعلق بإثبات الأنساب المنفية شرعا ، أو انتساب فرع إلى أصل لم تثبت نسبته إليه شرعا وثبتت إلى غيره ، ونحو ذلك ، فالشرع هو الفيصل وهو الحاكم في مثل هذه القضايا . والدليل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت : اختصم سعد بن أبي وَقّاص ، وعبدُ بن زَمعَةَ في غلام ، فقال سعد : هذا - يا رسول الله - ابن أخي عُتبَةَ بن أبي وقّاص ، عَهِدَ إليّ أنه ابنه ، انظر إلى شبهه ! وقال عبد بن زمعة : هذا أخي يا رسول الله ، ولد على فِرَاشِ أبي من ولِيدَتِه . فنظر رسول الله r إلى شَبَهِه ، فرأى شبهاً بَيِّنا بعُتبَة ، فقال : " هو لك يا عبدُ بن زمعة ، الولد للفراش ، وللعاهر الحَجَر ، واحتجبي منه يا سَودَة بنت زمعة " . فلم تره سودة قط . أخرجه البخاري ومسلم .

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه : أنّ أَعرَابيّا أتى رسول الله r ، فقال : إن امرأتي ولدت غلاما أسودا ، وإني أنكرته . فقال رسول الله r : " هل لك من إبل ؟ " قال : نعم . قال : " فما ألوانها ؟ " قال : حُمرٌ . قال : " هل فيها من أَورَق ؟ " قال : إنَّ فيها لَوُرقاً . قال : " فأنَّى ترى ذلك جاءها ؟ " قال : يا رسول الله ، عِرقٌ نَزَعَها . قال : " ولعل هذا عرق نزعه " ، ولم يُرَخِّص له في الانتفاء منه . أخرجه البخاري ومسلم.

وعليه فلا يجوز البتة استخدام نتائج الفحوص الوراثية في نفي الأنساب الثابتة شرعا ، أو استعمالها من أجل التخليط بين الأنساب ونسبة فرع لأصل أو العكس فيما لم يثبت شرعا وجاء الشرع بضده .

وقد أشار الشيخ محمد الأشقر رحمه الله إلى ذلك ، إذ أفاد أن مجال العمل بهذه الفحوصات إنما يكون في إثبات ونفي أبُوُّةٍ لم تثبت بطريق شرعي صحيح معتبر ، لا غير . انظر إثبات النسب بالبصمة الوراثية . انظر إثبات النسب بالبصمة الوراثية .

هذا وللمجمع الفقهي الإسلامي قرار بهذا الخصوص تم إصداره في دورته السادسة عشر ، وفيما يلي نص القرار : لقد اجتهد أصحاب الفضيلة ، أعضاء المجمع الفقهي الإسلامي ، في دراسة موضوع البصمة الوراثية ، في دورته السادسة عشر ، التي عقدت في الفترة من 21-26 من شهر شوال عام 1422 . وذلك بعد تشكيل لجنة علمية من أمانة المجمع الفقهي الإسلامي ، حيث قامت هذه اللجنة بزيارة مختبرات الفحوص الوراثية في المملكة العربية السعودية ، واطلعت على تفاصيل التقنية ، وطريقة العمل بها في قضايا البُنُوّة ، والقضايا الجنائية ، كما تم عرض مجموعة من البحوث المتعلقة بالأحكام الشرعية للاستفادة من الفحوص الوراثية ، في قضايا النسب والقضايا الجنائية على أصحاب الفضيلة أعضاء المجمع ، وجاء القرار السابع من قرارات الدورة حول البصمة الوراثية ، ومجال الاستفادة منها على النحو الآتي :

* لا مانع شرعا من الاعتماد على البصمة الوراثية ، في التحقيق الجنائي ، واعتباره وسيلة إثبات الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ، ولا قصاص ، لخبر : " ادرؤوا الحدود بالشبهات " ، وذلك يحقق العدالة والأمن لمجتمع يؤدي إلى نيل المجرم عقابه ، وتبرئة المتهم ، وهذا مقصد مهم من مقاصد الشريعة .

* إن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب ، لا بد أن يحاط بمنتهى الحذر ، والحيطة ، والسرية ، ولذلك لا بد أن تُقدّم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية .

* لا يجوز شرعا الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب ، ولا يجوز تقديمها على اللّعان .

* لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعا ، ويجب على الجهات المتخصصة منعه ، وفرض العقوبات الزاجرة ، لأن في ذلك المنع حماية لأعراض الناس ، وصونا لأنسابهم .

* يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات التالية :

· حالات التنازع على مجهول النسب ، بمختلف صور التنازع الاي ذكرها الفقهاء ، سواء كان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها ، أو كان في سبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه .

· حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوها ، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب .

· حالات ضياع الأطفال واختلاطهم ، بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب ، وتعذر معرفة أهلهم ، ووجود جثث لا يمكن التعرف على هويتها ، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب أو المفقودين .

* لا يجوز بيع الجينوم لجنس أو شعب أو لفرد لأي غرض ، كما لا يجوز هبتها لأي جهة ، لما يترتب على بيعها أو هبتها من مفاسد .







* يوصي المجمع بما يأتي :

· أن تمنع الدولة إجراء الفحص الخاص بالبصمة الوراثية إلا بطلب من القضاء ، وأن يجون في مختبرات الجهات المختصة ، وأن تمنع القطاع الخاص الهادف إلى الربح من مزاولة هذا الفحص لما يترتب على ذلك من المخاطر الكبرى .

· تكوين لجنة خاصة بالبصمة الوراثية في كل دولة ، يشترك فيها المختصون الشرعيون ، والأطباء ، والإداريون ، وتكون مهمتها الإشراف على نتائج البصمة الوراثية ، واعتماد نتائجها .

- أن توضع آلية دقيقة لمنع الانتحال ، والغش ، ومنع التلوث ، وكل ما يتعلق بالجهد البشري في حقل مختبرات البصمة الوراثية حتى تكون النتائج مطابقة للواقع ." أ.هـ.





الخاتمة :

من خلال هذا التلخيص يتبين للقارئ أن مسألة الاعتماد على البصمة الوراثية أو ما يعرف بـ ( DNA) ، من مسائل النوازل الفقهية التي ينبغي فيها الرجوع إلى الفقهاء ، وأهل الاختصاص من المشتغلين بعلم الإنساب خصوصا الثقات منهم والمختصين من الأطباء ورواد المختبرات العارفين بهذا الباب ، إذ أن المسألة دين ، لا تخضع لأهواء الناس ، والمسترزقين من وراء هذا الباب ، الذين يديرون المشاريع التجارية التي تدر عليهم الربح دونما ورع وتثبت ، وللشرع طرقه المحكمة في معالجة قضايا النوازل ، وقد تكلم في ذلك العلماء ، وبينوا المنهج الصحيح وطريقة السلف في التعامل مع النوازل ، وإلحاق الفروع بالأصول ، ومن الكتب التي يمكن الإفادة منها في هذا الباب كتاب ( منهج السلف في التعامل مع النوازل ) للشيخ د. محمد حسين الجيزاني .فهو كتاب حسن نافع في بابه .

ومن المراجع المهمة المتخصصة في هذا الباب :

· إثبات النسب بالبصمة الوراثية . لمحمد الأشقر .

· البصمة الوراثية ومدى مشروعية استخدامها في النسب والجناية . لعمر بن محمد السبيل .

· البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها . لوهبة الزحيلي .

· البصمة الوراثية من منظور الفقه الإسلامي . لعلي محيي الدين القرة داغي .

· أحكام النسب في الشريعة الإسلامية . لعلي محمد المحمدي .

· التحليل البيولوجي للجينات البشرية وحجيته في الإثبات . لمحمد بن يحيى النجيمي .

· أعمال ندوة الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني ، رؤية إسلامية . المقامة من قبل المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت .

والله ولي التوفيق والسداد ...

وكتبه :
الشريف معاذ بن أحمد بن عبدالعزيز الحازمي يوم
الجمعة 16 من شهر ربيع الأول لعام 1435 مدينة الطائف حرسها الله

بواسطة : hashim
 0  0  3620
التعليقات ( 0 )

-->