• ×

دهن وهيل وعسل

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

دهن وهيل وعسل

2016/01/16

بقلم | د. نايف عبدالعزيز الحارثي

ما بعث نبي برسالة التوحيد إلّا وحذّر قومه من الغلو في الدين وغيره ، والأقوام التي انحرفت عن الجادة إنما بسبب الغلو أو التهاون ، وقد حذّرنا الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الغلو في أحاديث كثيرة ، وقد بعث عليه الصلاة والسلام مكملًا ومتممًا لمكارم الأخلاق ومحاسنها، والعرب اشتهرت في سالف عصرها وأوانها بالكرم ، وقد امتدحت هذه الصفة على مرّ السنين ، ولكن ينبغي أن نفرّق بين كرم لكسب الشمائل ودفع غوائل الجوع ، وبين كرمٍ للشهرة والجحود . لا شك أنّ العربي المسلم يعلم يقينًا مسببات زوال النعم ومداها القصير ، فقد سمعنا أن بالشكر تدوم النعم ، لا بالتبذير والبذخ المفرط ، ونحن جيل نشأ على شيء من الاكتفاء الذاتي من الملبوس والمأكول والمشروب ، ولكن الأجيال التي سبقتنا – الأباء والأجداد- حدّثونا عن قصص يشيب لها رأس الوليد ، وكثير من سكان الجزيرة العربية هجروها إلى أصقاع الدنيا ، ركبوا البحار وأهوالها ، وقطعوا الفيافي ومفازاتها، وصعدوا الجبال بمشقاتها ، ونزلوا الأودية بمخاطرها ، لأجل ماذا ؟ من أجل الحصول على ما يسدّ الرمق ، وهناك أمثلة حيّة يحكيها من ذاق مرارة الجوع ؛ حتى أكلوا -أكرمكم الله- الجيف بعد أن قضوا على الشجر والمدر . ويحكى أنّ الصومال كانت ترسل زكاتها -قبل ما يقارب مئتي عام – إلى الجزيرة العربية بعد أن أفتى علماؤها بذلك ، ويحكى أنّ أهل العراق يتبجحون بأن الفقر لا يعرف لهم طريقًا ، وأنّ أهل الشام كانوا يدوسون على النعمة بأرجلهم ، ويمسحون مناضدهم من الغبار بالخبز ، فماذا حلّ بهؤلاء الأقوام ؟ إنهم كفروا النعمة وأهانوها فرفعها الله عنهم ، والناظر لأحوالهم اليوم يحزن عليهم ويعتصره الألم ؛ بل إن علماءنا -حفظهم الله – أفتوا بتعجيل الزكاة لهم . فهل من متعظ ؟ لا أريد أن أسهب في سيرة خير البشر وجيل الصحابة وما لاقوه من مشقة في العيش ، وهم صابرون محتسبون ، فقد ربطوا الحجارة على بطونهم من الجوع ، وخرجوا ليلًا لا يخرجهم إلّا الجوع ، كل ذلك ونحن في غفلة مميتة . طبيعة الجزيرة العربية تنبيء بدق ناقوس الخطر ، فهي صحراء قاحلة ، يأتيها رزقها من أقطار العالم ، ولا يوجد لديهم اكتفاء ذاتي من الزراعة ولا الرعي ، ومع ذلك مظاهر البذخ تطل علينا كل يومٍ بصورتها البشعة التي تنذر بقدوم العقاب ؛ نعم رأينا أكوامًا من الأطعمة تجاور صناديق النفايات بعد أن ضاقت بها الحاويات، رأينا الصواني التي تنوء بحملها العصبة وقد امتلأت من بهائم الأنعام ، رأينا أطنانًا من الفواكهة تعلو بعضها البعض ، وكل ذلك فائض عن حاجة الضيوف ، رأينا الرجل يقدّم لضيوفه خروفًا لكل واحد منهم ، رأينا معدات الطرق التي صممت خصيصًا لفتح الطرق وإزالة الصخور ، رأيناها – للأسف – تنحني على أطنان النعمة من الأرز واللحم والفواكه لطمرها أو رميها بعيدًا عن أنظار النّاس ، ونسوا أن عين الله ساهرة لا تسهو ولا تنام ، رأينا من يغسل أيدي ضيوفه بدهن العود ، رأينا من ينثـر الهيل على الأرض استعراضًا للكرم ، رأينا من يكب العسل كذلك ، رأينا وسنرى من هؤلاء السفهاء الحمقى الكثير والكثير حتى يمحق الله النعمة والبركة ، هؤلاء فسقوا في الديار لأنهم مترفون ، لم يراعوا دينًا ولا عرفًا ولا شيمة ولاقيمة ، نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ولذلك لي بعض الوقفات ؛ هؤلاء إمّا أناس يعيشون بعيدًا عن واقع الأمة ، أو رانَ الشيطان على قلوبهم وزيّن لهم سوء أعمالهم فلم يعودوا ، أو أنهم بعيدون كل البعد عن الدين الحق ، لأنه كفر للنعمة وبالنعمة ، ولذا وجب على ولاة الأمر ردع هؤلاء مهما كانت مكانتهم ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حذّر ابنته فاطمة – رضي الله عنها – بأنه لا يغني عنها من الله شيئاً ، وهي ابنته ولها من المكانة ما لها ، فما بال هؤلاء القوم لا يفهمون ؟ هل نترك هؤلاء يعبثون حتى تحل الكارثة بنا ؟ أين النصح والإرشاد ؟ أولئك القوم لا يفهمون إلّا بموازات صنيعهم ؛أي ربما لو ترك من يفعل ذلك في أدغال أفريقيا شهراً كريتًا لربما ارتدع ، ولو تتبعت الحكومة مصدر هذه الأموال لكانت الأمور أكثر انضباطًا ، ولو قُنّــنَ إخراج الزكاة من قبل الدولة لكان أقدر وأفضل، ولو زج بهولاء في خدمة المجتمع لكان أولى ، ولو شهّر بهم في الإعلام لأنهم مفسدون لحسن الحال ، ولو ترك الحبل على الغارب لبالغوا في ما يسمى كرمهم المزعوم حتى نرى غلوًا لا تحمد عقباه ، فربما قرّب أحدهم ابنه الصغير – الجذع- الذي لم يبلغ السابعة أو الثامنة قربانًا لضيفه ، فيتبعه سفهاء القوم تقليدًا وغلوًا وارتفاعًا ، وربما يبلغ بهم الحال أن يمتشق أحدهم سكينه ويبقر بطنه أو يفري أوداجه ليتعجل للجحيم ويترك الضيف في هول المشهد .

المصدر: صحيفة مكة

بواسطة : د. نايف عبدالعزيز الحارثي
 0  0  672
التعليقات ( 0 )

-->