• ×

موقف المؤرخ د. عمر فروخ البيروتي من الأمير الحجاج بن يوسف الثقفي

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

موقف المؤرخ د. عمر فروخ البيروتي من الأمير الحجاج بن يوسف الثقفي


يعجب عمر فروخ ( 1906 – 1987 م )، رحمه الله، مما رسخ في أذهان الناس من أن الحجَّاج بن يوسف سفاك للدماء، جبار، ظالم، هدم الكعبة؛ وأُطْلِقت عليه نعوت القسوة، والظـلم، والجبروت، ما جعـل النفوس تتقزز من ذكره، وتشمئز مما نسب إليه، مع أن الإنصاف يقضي أن نكتب ما له وما عليه. وعلّة هذا أن علماءنا لم يعنوا بنقل التاريخ عنايتهم بنقل السنة، ولم يتعبوا أنفسهم في تصحيح إسناده وتمحيص رواياته كما أتعبوا أنفسهم فيها، وأن التاريخ دوِّن في عهد العباسيين، فكان فيه من التحامل على «بني أمية» شيء كثير. وقد امتد ذلك إلى عصرنا هذا، إذ نجد العلماء يتشددون في قبول الحديث، ويحاكمون متنه، ويرفضونه إذا خالف العقل والمنطق، ويتساهلون في قبول الروايات الضعيفة والموضوعة، ولا أبالغ إذا قلت: الخرافات التاريخية.
إنك تسمع وتقرأ لمن يحدثك عن الحضارة الإسلامية وفضلها على الحضارات الأخرى، ولا يستطيعون تقديم الإسلام السياسي، لأنهم يقدمونه مشوهاً، ويبرزون سلفنا الأول أقزاماً ملتاثين، أو سباعاً تتهاوش على أعراض الدنيا ومآربها الخسيسة. وبهذا المنطق «الصبياني» لا يبقى في تاريخ المسلمين رجل موضع ثقة.
أو ليس عجيباً أن القوم – من غير المسلمين – إن رأوا من عظمائهم خيراً أذاعوه، وإن رأوا شراً دفنوه؟ لقد أُلفت عشرات الكتب عن «نابليون» تنوه بأمجاده، وتتواصى بالسكوت عن استبداده وفساده وغدره وشذوذه وخسته. أما نحن فمبدعون في تضخيم الآفات إن وجدت، واخـتلاقها إن لم يكن لـها وجود، والنتيجة أنه لن يكون لنا تاريـخ. إننا نحن وحدنا الذين نعرض تاريخنا بالصورة الشوهاء الممزقة، ونطيل الوقوف عند مقتل عثمان بن عفان، رضي الله عنه، و(الجمل) و(صفين) و(مهزلة التحكيم) و(هرقلية معاوية) و(كلاب يزيد وقروده) و(كربلاء) و(الحرة) و(ضرب الكعبة بالمنجنيق) و(الحجاج) و(الظلام التركي) و(الجهل المملوكي) مع كل ما في كل ذلك من أكاذيب وافتراءات. أما قرن الاستعمار الذي ديست فيه ديار الإسلام بأحذية العدو الثقيلة، فهو بدء النهضة وعصر التنوير(!)
يقول الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله: «إن الجهود المجنونة التي تستبيح قادتنا وكبراءنا، في ميدان العلم والأدب والفلسفة، لها غاية يجب فضحها والتحذير من مغبتها، إنها تريد القضاء على تاريخ أمة.. وعندما تكون أمتنا بلا تاريخ فلن تكون أمـة.. ما قيمـة أمة ليس لها رجـال؟ وما قيمة دين لم يصنع رجالاً على تراخي العصور؟!».
لقد عمل عمر فروخ، رحمه الله، على إنصاف الحجاج، فذكر له أموراً عظيمة، منها:
1- أنه أمر بإعجام (نقط) القرآن الكريم، وضبطه بالحركات، مع أنه لقي معارضة. ونحن اليوم نذكر الحجاج بالخير، لأنه بعمله هذا قد حفظ القرآن الكريم من التحريف.
2- نقل الدواوين (سجلات الدولة) من اللغات القبطية (في مصر) واليونانية (في الشام) والفارسية (في العراق) إلى اللغة العربية. فجعل بهذا اللغة، العربية لغـة دولة، بعـد أن كانت لغة للحياة الدينية في الإسـلام.. ولمّا اضطر جميع الساكنين في البلاد الإسلامية إلى تعلم اللغة العربية (لغة الدولة) اصطبغ أولئك بصبغة واحدة، وجمعت بينهم ثقافة واحدة.
3- سكَّ عملة للبلاد الإسلامية.. إن العملة المسكوكة باللغة العربية قد خلعت على الدولة العربية شخصية مستقلة، وجعلت لها وجاهة بين العرب أنفسهم، ولدى الدول الأخرى.
ويلاحـظ أن ما جاء في الفقرة الثانية والثالثة ينسـب إلى «عبد الملك ابن مروان».
4- فتح السند وما وراء النهر.. إن الفـتوح لـم تتسع في المشـرق إلا حينما ولّى الحجّاجُ قتيبةَ بن مسلم خراسان، ووجهه في فتوحاته حتى وصل إلى «كاشغر» على حدود الصين.
ثم جهز الحجّاج جيشاً من الشباب بقيادة ابن عمه «محمد بن القاسم الثقفي» وأرسله لفتح السند، ففتحها بلداً بلداً، وهذا يدل على سعة الدارية بالناس، ونفوذ بصره إلى دخائل نفوسهم.
- إصلاحات الحجاج في العراق:
ثم إن عمر فروخ، رحمه الله، وهو يسعى لإنصاف الحجّاج، ذكر عدداً من إصلاحاته في العراق.. من ذلك:
1-أنه مسح العراق (أي قاسه واستخرج مساحاته، وعين أماكنه، وقيد الأملاك فيه) ثم جعل كل صاحب أرض مسؤولاً عن الجريمة التي تقع في أرضه، فساعد بذلك على نشر الأمن في العراق.
2- أعاد حفر الأقنية الكبرى بعد أن كانت الحروب والفتن قد طمرتها، فانتعشت بذلك الزراعة.
3- وحد المكاييل والمقاييس والموازين، فسهل بذلك الأعمال التجارية وضبط الأسعار.
4- منع الهجرة الداخلية من القرى إلى المدن، لئلا تقفر القرى فتقل الزراعة ثم تزدحم المدن وتضيق بالعاطلين من أهلها.
5- عُني بالنظافة العامة، فقتل الكلاب الشاردة، وحبس من بال في الشارع بمدينة واسط.
6- نظّم الجيش (جعله نظاماً إجبارياً) واختار له الأحداث فقط، وكان يفحص المتقدمين إلى الجيش فحصاً طبياً.
ثم يقول عمر فروخ، رحمه الله، بعد هذا كله: «إن هذا الذي تفتحت له عبقرية الحجاج بن يوسف في القرن الأول للهجرة (أوائل القرن الثامن للميلاد) لم تَرَهُ العبقريةُ الفرنسية إلا في آخر القرن الثامن عشر للميلاد (أوائل القرن الثالث عشر للهجرة) بعد أحد عشر قرناً! ».
ويضيف: «وبينما كانت الفتوح العربية في المشرق على أشد اتساعها، توفي الحجاج... فتوقفت الفتوح عند الحد الذي كانت قد بلغت.. ومات الحجاج ولم يخلف إلا سيفاً ومصحفاً وعشرة دراهم فضة».

* كتبه الأستاذ أحمد العلاونة في كتابه ((عمر فروخ رحمه الله في خدمة الإسلام)).


بواسطة : أحمد العلاونة
 0  0  1559
التعليقات ( 0 )

-->