• ×

كتاتيب مكة في العصر العثماني

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

كتاتيب مكة في العصر العثماني


السبت، ١١ أبريل/ نيسان ٢٠١٥
عمرو عبدالعزيز منير

لا أحد ينكر دور «الكتاتيب» كمؤسسة تعليمية تخرج في جنباتها كثير من الأجيال، الذين حفظوا القرآن الكريم وتعلموا قواعد القراءة والكتابة، وتربوا على المبادئ والأخلاق الحميدة، ثم أصبحوا بعد ذلك قادة منابر وأصحاب فكر في المجتمع يشار إليهم بالبنان في مختلف التخصصات في قراءة القرآن بجميع رواياته، وأيضاً في القضاء والطب والهندسة والأدب والثقافة والفن. وفي مكة في العصر العثماني أدت الكتاتيب دوراً فاعلاً في إثراء الحياة الاجتماعية والثقافية والعلمية في المدينة المقدسة بجانب حلقات العلم التي انتشرت بين جنبات المسجد المكي الحرام. وجاء في أول تقرير رسمي للحكومة العثمانية عن ولاية الحجاز، والذي صدر في عام 1301هـ الموافق (1883م – 1884م) أنه كان في مكة المكرمة ثلاثة وثلاثون كُتِّاباً بها 1150 طالباً. ويظهر أن هذا العدد أخذ في الازدياد عاماً بعد آخر، ففي عام 1309هـ (1891م – 1892م) جاء في التقرير الرسمي للحكومة العثمانية أن عدد الكتاتيب في مكة المكرمة بلغ 43 كُتِّاباً، وهذا يعكس مدى اهتمام أهالي مكة بتعليم الأبناء. وأكد القنصل البريطاني في جدة في تقريره الذي كتبه عن ولاية الحجاز في عام 1889م / 1306هـ اهتمام أهالي مكة المكرمة بالتعليم، وأن «الكتاتيب» الخاصة التي تقوم بتأسيسها الطبقة المثقفة في هذه المنطقة، تجد إقبالاً شديداً من أبناء مكة وغيرها من المدن في منطقة الحجاز.

ويشير المؤرخ السعودي عبداللطيف بن دهيش في كتابه «الكتاتيب» الصادر حديثاً في جدة إلى أن عدد «الكتاتيب» في مدينة مكة، استمر في الازدياد البطيء، كما أن بعض تلك «الكتاتيب» اختفى، وظهرت «كتاتيب» أخرى غيرها خلال الفترة الواقعة بين عام 1295هـ، وعام 1373هـ.

وأشار ابن دهيش إلى أسماء هذه «الكتاتيب»، وأسماء مؤسيسها والأحياء التي وجدت بها، وعدد الطلاب أو الطالبات والمواد التي تدرس بها في رصانة علمية تحسب له اعتماداً على معرفة تاريخية موسوعية تمتع بها. ولعل أهم «الكتاتيب» التي أشار إليها هو كُتاب السناري لمؤسسه الشيخ عبدالله حمده السناري الذي أسسه في عام 1300هـ، وكان مقره في بداية الأمر في دار للمراغنية على يمين الداخل لباب العمرة، وبعد مدة قصيرة انتقل إلى أحد بيوت أشراف مكة عند مدخل باب الباسطية، ثم إلى زاوية السمان بباب الزيادة، وعاد بعد ذلك إلى أحد البيوت القريبة من باب الباسطية.

وقام هذا الكُتَّاب في وقت لم يكن في مكة المكرمة من المدارس النظامية سوى المدرسة الصولتية التي تأسست عام 1292هـ، والمدرسة الفخرية التي تأسست عام 1298هـ، كما أن مكانة الشيخ عبدالله حمده السناري العلمية، وقيامه بالتدريس فيه وتنظيمه له أكسبته شهرة علمية كبيرة، ومكانة عالية، جعلت الشيخ محمد علي زينل يجعل منه نواة لمدرسة الفلاح التي أسسها في مكة المكرمة عام 1330هـ، وكان أسس مدرسة الفلاح الأولى في جدة عام 1323هـ، ومن عرفائه الشيخ مصطفى يغمور، والد الشيخ أحمد يغمور مدير الأمن العام، وكانت مهمة العريف في هذا الكتاب وغيره من «الكتاتيب» مراجعة الدروس للطلاب، وتنظيم سير الدراسة، والإشراف على الطلاب، ومدى متابعتهم للدروس وفهمها، وتخرج من هذا الكتاب عدد كبير من الطلاب الذين واصلوا دراستهم في مدرسة الفلاح أو في حلقات العلم والدرس في المسجد الحرام. وعندما تحول هذا الكتاب إلى مدرسة حديثة، عين الشيخ محمد علي زينل كلاً من الشيخ عبدالله حمدوه السناري، والسيد عبدالله مجاهد، والشيخ أحمد سناري السركتي، صاحب أحد الكتاتيب في مكة ومؤسس جمعية الإرشاد في أندونسيا، أساتذة في هذه المدرسة، كما انضم جميع طلاب كتاب أحمد السركتي إلى هذه المدرسة.

ومن «الكتاتيب» التي تحولت إلى مدارس ومعاهد علمية في مكة كُتاب الشيخ أحمد عجيمي وتأسس في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، وكان مقره في منزل بجوار بازان القشاشية بمكة، ويتراوح عدد الطلاب به بين سبعين إلى ثمانين طالباً، وتطور هذا الكتاب في ما بعد، أصبح مدرسة أهلية يدرس بها جميع العلوم التي تدرس في المرحلة التحضيرية آنذاك، وأطلق على هذه المدرسة اسم «مدرسة الترقي التعليمية» إضافة إلى عدد كبير من «الكتاتيب» التي أسهمت في إثراء الحركة التعليمية في المدينة المقدسة مثل كُتَّاب الشيخ أحمد عجيمي بجوار بازان القشاشية، كُتَّاب الشيخ عبدالحي غندورة بمنزلة باب الحارة، كُتَّاب الشيخ عبدالمعطي إبراهيم النوري بالشبيكة، كُتَّاب الشيخ أحمد فودة بأجياد، كُتَّاب الشيخ أمين الماحي، كُتَّاب الشيخ حسين العبادي، كُتَّاب الشيخ عارف حكمت بالمسفلة، كُتَّاب الشيخ عبدالله الكثامي في منطقة المعابدة وغيرها.

وإلى جانب «الكتاتيب» التي اهتمت بتعليم القرآن الكريم تلاوة وحفظاً، والقراءة والكتابة، والحساب وبعض مبادئ العلوم الإسلامية الأخرى كالفقه والتوحيد، وجدت في مكة أيضاً «كتاتيب» من نوع آخر، فقد اهتمت فقط بتعليم طلابها حسن الخط، وكتابة الخطوط بأنواعها كالنسخ والرقعة والثلث ونحوه، كما اهتمت بتدريس الحساب والهندسة والأعمال التجارية، كمسك الدفاتر، وكانت تعرف هذه «الكتاتيب» بـ «كتاتيب» الخط أو الخطاط، وكانت منتشرة في منطقة الحرمين الشريفين، بخاصة في مكة المكرمة، مثل كُتَّاب الشيخ سليمان غزاوي، وكُتَّاب الشيخ إبراهيم الخلوصي الحلواني، وكتاب الأستاذ محمد حلمي، وكُتَّاب الأستاذ محمد مرزوقي، كُتَّاب الشيخ محمد طاهر عبدالقادر كردي. ويبدو أن كل هذه «الكتاتيب» كانت تؤهل خريجها للعمل في إدارة السجل العام في المحاكم أو دوائر الحكومة أو للعمل في مسك الدفاتر والتجارة أو في وزارة المعارف وأعمال الحكومة المختلفة.

الواقع التاريخي يؤكد أن «الكتاتيب» لم تكن مقصورة على الطلاب فقط، وإنما وجدت أيضاً «كتاتيب» خاصة بالفتيات، تقوم بالتدريس فيها مدرسات من أهالي مكة، ويدرس فيها مواد مشابهة للمواد التي تدرس للطلاب، وهي في الغالب عبارة عن مواد تعليم القراءة والكتابة، وقراءة القرآن الكريم وحفظه، والتجويد، والحساب، ومبادئ العلوم الدينية والسيرة النبوية والأخلاق. ولعل أشهر هذه الكتاتيب في مكة كُتَّاب السيدة آشية وكان تأسيسه في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، كُتَّاب الشامية للبنات، كُتَّاب المدرسة الصولتية للبنات، كُتَّاب الفقيهة فاطمة البغدادية والذي تأسس في بداية العهد السعودي، وكان موجوداً في جبل السبع بنات في أجياد، كُتَّاب الأستاذة الهزازية في الصفا، كُتَّاب الأستاذة عائشة معجونية وغيره. والثابت تاريخياً أنه لم يقتصر وجود «الكتاتيب» على مدينة مكة وإنما انتشرت في المدن والقرى الصغيرة التي أحاطتها، فورد في التقرير العثماني لولاية الحجاز عام 1306هـ أنه كان في الطائف أربعة «كتاتيب»، وذكر الأستاذ إبراهيم رفعت أنه عندما زار مدينة الوجه عام 1318هـ / 1901م لم يكن بها سوى كتاب واحد، وفي رحلته الثانية عام 1320 هـ / 1903م زار إبراهيم رفعت مدينة ينبع، وذكر أن بها مكتباً واحداً للتعليم. وفي تذكرنا للصورة التي كانت عليها كتاتيب مكة في الزمن الماضي في صورتها كانت تناسب عصرها، نجد استمرارية الحاجة المجتمعية إلى نشر «الكتاتيب» ودورها في حماية النشء والشباب من الفكر المتشدد، وتنمية قدراتهم على الحفظ والفهم والتفوق الدراسي. ولكن ليس شرطاً أن تعود «الكتاتيب» على الصورة نفسها المادية المعهودة التي نعرفها جميعاً، إذ توجد البدائل من حيث الإمكانات التي تناسب عصرنا الحاضر.

المصدر: جريدة الحياة

بواسطة : عمرو عبدالعزيز منير
 0  0  988
التعليقات ( 0 )

-->