• ×

تأثير نشاط العمال الوافدين على المواقع السياحية والأثرية بجبل الحميراء

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
تأثير نشاط العمال الوافدين على المواقع السياحية والأثرية بجبل الحميراء
كنت قد نشرت قراءة مبدئية لكتاب الباحث عبد الله الشايع الموسوم تحت عنوان (سوق مجنة بحث في تحقيق موضعه ) والصادر بتاريخ 1437هـ بهذا الموقع المبارك تحت عنوان (قراءة في سوق مجنة من واقع ما كتبه الشايع ) ونشر بتاريخ 6/8/1439هـ وذكرت فيه ما ذهب إليه الشايع بخصوص المكان وقلنا أنه لاخلاف على ما أثبته الشايع مع ما حوله من مواقع تاريخية وأشكر الإخوة المحررين بهذا الموقع إذ أحسنوا بي الظن ومنحوني هذا المساحة من موقعهم وسعدت كثيرا بأن وثقت مصدر مهم من بحوثي وأصبح متاح للقراء، وقد تلقيت بعض الملاحات من بعض الآثاريين والمؤرخين حول ما كتبته ولهم مني الشكر إذ نبهوني على بعض الملاحظات وإن كانت مقتضبة جدا على هيئة سطرين أو ثلاثة وفق ما تمليه لغة العصر الحديثة التي تميل دوما للإقتضاب الشديد ولكنها كانت مفيدة بالنسبة لي في حدود إمكانياتي المتواضعة ولا بأس أن نعرج عليها، وأهمها مظاهر التدمير المتعمد لتلك المواقع وكيفية تخليصها أو التنبيه عليها كما تلقيت ملاحظات جميلة أنني لم أتطرق للجبل الأصفر (الحميراء) بالشكل الملائم وهو لايقل أهمية في سياقه المرتبط به ويعرف اليوم في تلك الناحية بجبل الحميراء وتاريخيا (بخيف الحميراء) كما سيأتي، ولكن ما حاله اليوم؟ وهو ما فهمته من سطور المعقبين ...هذا السؤال الذي ينبغي طرحه حتى لو ألزمنا فرض التشاؤم فلا مجال للتخدير بنمط التفاؤل إذا كان التفاؤل سيقوض جهدنا في الحفاظ على أهم علم مرتجل صمد مع هذه السواق ورافقها بل وظل سندا لها وحاميا لحماها. كما أن مثل هذه المواقع مرتبطة تماما بتاريخ مكة فمخؤرخو مكة كانوا على تواصل مع هذه القرى تواصلا مباشرا وكانوا مطلعين على ما يحدث بها .
قلت: قد يكون جبل الحميراء غريبا في مسماه بين الأوساط الثقافية، ولكن ستتلاشى هذه الغرابة عند استكمال القراءة المبدئية لخواصه المكانية والآثارية، فجبل الحميراء مثله مثل أي جبل اكتسب مسماه من طبيعته الشكلية وتركيبته المكانية ولم يتدخل هو في اختيار اسمه ولا شكله ولكن الطبيعة البشرية والإحساس الإنساني هو من يحدد مثل هذه المسميات سواء طابقت أم خالفت المكتسب العام للموقع وما علينا إلا الإلتزام بهذه المسميات والدفاع عنها وتثبيتها في الأوساط العلمية وتخليد قيمتها تزامنا مع سوقنا، وليس بوسعنا أن نمايز ونبدل المسميات وفقا لرؤيتنا الحالية فهذا ثلم في مفهوم تاريخ المسميات وقدح في أمانة النقل والتوثيق . وجبل الحميراء علم مرتجل كما أشرت سلفا صمد آلاف السنين حتى قبل أن يسمى لكنه اليوم بدا ضعيفا متهلهلا مكسر الأطراف بعد أن تعرض لتجريف مفاصله وتدمير منظم ومدروس لكافة مقوماته السياحية والآثارية والثقافية والتاريخية وهو ما جعلنا أكثر يئسا في نجاة المتبقي منه إن لم تحدث معجزة وتنتشل المتبقي من آثاره ومعالمه إن ما يتعرض له يلزمنا يقينا في الجزم بأن (خلف الأكمة ما خلفها) وتأتي هذه المستجدات المؤلمة بعد أن تم توثيق معظم مواقعه المهمة المنتشرة بين جنباته عبر بعثتين آثاريتين نشرت تفاصيلها كاملة بمجلة أطلال في العددين الثامن عام 1404هـ تحت عنوان (برنامج مسح وتوثيق درب الحج) والعدد الحادي عشر تحت عنوان (مجموعة من المواقع في جدة ووادي فاطمة) وفيها تمكن الباحثون من توثيق وتدوين كثير من المواقع الآثارية بهذا الجبل تحديدا وهو ما دفعني لكتابة هذا التعقيب بعد أن نبهني ممن أدركوا هذه الكارثة الثقافية كما أجبروني هذا السؤال.. ما الداعي لهذه البعثات إن كانت حبرا على ورق ؟ وأين ذهبت توصياتها ؟ وكيف استطاع عمال وافدون بسطاء أن يفرضوا كل هذا القدر من التدمير في هذا المكان وما حوله؟
قبل أن نجيب على هذه التساؤلات يلزمنا تنضيد مقدمة تاريخية يسيرة قصدنا منها التعريف بهذا الجبل وريادة تراثه الطبيعي وآثاره البشرية .
مدخل تاريخي:
عرف هذا الجبل بخيف الحميراء ولم يعرف بجبل الحميراء كما هو الشائع اليوم كما في معجم الحموي : ) وخيف الحميراء بأرض الحجاز..) ج2،ص 412 ، وظل النصف الآخر من هذه التسمية سارية حتى اليوم لكن دون ذكر كلمة خيف (الحميراء)،هكذا ولعلها كانت مرتبطة بهذا الجبل في القرن السابع وما قبله وفق تاريخية الحموي ثم انفصلت عنه بعد ذلك ،ذكر ناصرخسرو في رحلته الشهيرة للحجاز سنة 442هـ القرية الملاصقة لسفحه الغربي ولم يذكر الجبل ولعل ناصر خسرو كان مهتما بنشاط شكر بن أبي الفتوح أمير مكة المتوفى سنة 453هـ السياسي أكثر من اهتمامه بضبط المسميات في تلك الناحية كما فهمت من سياق رحلته وله العذر فكتابه عبارة عن رحلة مختصرة وليس توسعا في ضبط الأمكنه كما فعل الهمداني أوإبراهيم بن إسحاق الحربي في المناسك ، (1) رغم أنه مر من هناك على الأرجح أثناء عودته للمدينة المنورة من مكة عبر درب الزائر المحاذي لهذا الجبل، ومعلوم أن شكربن أبي الفتوح هذا هو ممن جدد القرية الزراعية الملاصقة لسفحه الغربي قبل منتصف القرن الخامس وله مآثر حربية كبيرة هناك ، ولم يذكر المؤرخون المكيون اسم الجبل رغم أنهم ذكروا القرية الزراعية كثيرا أمثال عمر بن فهد في الإتحاف وتقي الدين الفاسي في العقد وابن فهد الهاشمي في كتابيه بلوغ القرى وحسن القرى حتى جاء ابن ظهيرة المتوفى سنة 986هـ في جامعه وذكر الجبل دون تسميته بالحميراء وظل معروفا عند العامة بهذه التسمية . (2)
وفي العصر الحديث ذكره الباحث عبد الله الشايع في كتابه سوق مجنة... بالحميراء استنادا على مرويات شفاهية وقام بموازنتها ورجحها واجتهد في ضبط مسماه . (3)
الموقع والطبيعة الجيولوجية:
يقع هذا الجبل شمال غرب مكة المكرمة بمقدار 30كم ، عند خط طول ودرجة عرض( 39,736-21,67 ) ويمتد من الشمال نحو الجنوب ويأخذ هيئة الإستطالة وقد لا يتجاوز ارتفاعه 400م عن سطح البحر، تتخلله شعاب وصدوع في جميع جهاته مع تأثير واضح لرياح الشمال والحت الصخري في بعض جنباته الناتج بفعل التأكسد الحمضي وهو نمط شائع تأثيره هناك ، وبرزت كهوف صغيرة ومغارات جعلت منه نموذجا جيدا للحياة البرية ما تزال آثاره إلى اليوم ، ويبقى هذا الجبل جزءا من مرتفعات الدرع العربي العائدة لما قبل العصر الكامبري ، والمتأتية أصلا من المجموعة الصخور القاعدية القديمة (وفق تصنيف الجيولوجيين). ويغلب عليه اللون الأحمر مع شهبة يسيرة جعلته يخالط اللون الأصفر أحيانا عند تركز أشعة الشمس. والموقع يتبع محافظة الجموم بمنطقة مكة المكرمة.
وبفضل هذ التجويفات والحت الصخري تيسر للإنسان في فترة من حقبه الزمانية أن يستفيد من هذه المعطيات فسقف بعض التجويفات على الأرجح وبعض الصدوع العميقة والمستطيلة بأغصان الأشجار ومكث بها فخلف بعض البقايا من أدواته كانت أكثر لفتا للباحثين في زيارتهم الشهيرة له عام 1406هـ من قبل إدارة الآثار حيث اكتسب الجبل أهمية أثرية كبيرة خاصة بعد أن تمكن أعضاء البعثة من أخذ عينات واسعة من هذا الجبل وما حوله من جبال كجبل السميراء الواقع في جنوبه مباشرة وهو معلم تاريخي آخر تلازمه مواقع للعصر الحجري أشار لها الباحثون ومرتبط بجل الحميراء ، ويمكن مراجعة المصورات المرافقة مع تقرير مجلة أطلال للنعرف أكثرولاشك أن جبل الحميراء وجبل السميراء قد استفادا كثيرا من موقعين إسلاميين هما البثينية والزبينية رصدهما الباحثون في زيارتهم عام 1403هـ ونجد لهما دراسة وافية في العدد الثامن من مجلة أطلال عام 1404هـ كما أشرنا.

المقومات السياحية للجبل الأصفر:
اعتاد الزائرون أن يستمتعوا بهذا الجبل وما يحتويه من تراث طبيعي وتراث إنساني إلى جانب هذين الموقعين(البثينية والزبينية) خاصة مع اعتدال الجو من شهر ديسمبر حتى شهر مارس حيث تعود الزائرون على المكوث حول الجبل وسفوحه ومنبسطاته السهلية الجميلة ذات اللون الأحمر الخلاق ، ويعتبر نموذجا رائعا لمقومات التراث الطبيعي من حيث وجود تشكيلات جيولوجية جاذبة كما أن المنطقة خالية من التلوث كما أن هناك جذب بصري ولكن الأهم بالنسبة للسائح وهو موقع الجبل المتوسط بين مراكز محافظة الجموم وقربه من الخدمات العامة المتوفرة بمحافظة الجموم وأهمها السكن الملائم حيث تتوفر بعض الوحدات السكنية الإيوائية بالجموم وفي شمال النوارية وكلها قريبة من الموقع مع توفر أسواق تجارية تلبي الحد الأدنى من متطلبات السائح رغم القلة في محال بيع لوازم الرحلات ، ولعل الأهم هو توفر ثلاثة عشر موقعا سياحيا أثريا تعود لعصور مختلفة لما قبل التاريخ حتى مطلع العصر العباسي بالإضافة لموقعي البثينية والزبينية مع وجود تراث عمراني ملاصق للسفح الغربي من اشهرها المسجد وقصر الشريف أما خلوها من التلوث الهوائي فهذا واضح تماما مما يدعم الجذب السياحي، وهناك بنية تحتية معقولة كتوفر طريق عام معبد يصل إلى سفح الجبل انطلاقا من الجموم والمتفرع عن طريق الطائف ويمكن تجاهل بقية الخدمات الحكومية الأخرى المتوفر بالمحافظة المعتادة كالأمن السياحي.. الخ.
مخاطر العمالة الوافدة:
تشكل العمالة الوافدة عددا سكانيا كبيرا بالنسبة لعدد سكان محافظة الجموم ومراكزها خاصة وأن معظمهم قادمون من مناطق قريبة نسبيا من جبل الحميراء مثل محافظة جدة المشبعة أصلا بالعمالة النظامية وغير النظامية بالإضافة لمكة وهي خزان بشري هائل يدفع بكثير من عناصره نحو هذه المحافظة وقراها ولهذا انتشرت العمالة الوافدة خاصة غير النظامية بشكل كبير جدا والتي لم تعد قادرة على الإنخراط في العمل النامي والمقنن من وزارة العمل لذا كان علي الوافدين البحث عن نشاط غير نامي وبعدي عن الرقابة فانعكس هذا على النشاط غيرالنظامي حول محافظة الجموم ومراكزها امتد ليشمل مواقع أثرية وتاريخية كثيرة ومنها جبل الحميراء (الموقع الآمن) بالنسبة لنشاطهم ، المتمثل في تربية الماشية وبناء الحظائر وتدوير المخلفات بالحرق أو اتخاذها موقعا لرمي بقايا المنشآت المعمارية. وبعد أن توطنت مثل هذه الأنشطة بجبل الحميراء اكتسب هؤلاء النشطاء ثقة أكبر فحدث تطور كبير يشبه احتلال المكان مع مطلع عام 1439هـ فتم إغلاق جميع المواقع السياحية المرتبطة بالجبل بكاملها تقريبا بسياجات حديدية على كافة أرجائها وبناء حظائر ماشية (وهمية أو حقيقية) ومنع الزائرين من الوصول وإمعانا في المنع تم تنفيذ شبوك حديدية قوية وركائز ومداخل وبوابات مسيجة لمنع أي مستكشف من دخول هذه المستوطنات مع تعمد تشويه جميع المواقع بصريا عمدا بمخلفات البناء والنفايات وبناء استراحات زنكية على السفوح حتى يفقد هذا الجبل وما حوله جذبه السياحي وصفاء مظهره مع تدمير كل جمالياته لتزهيد السياح في الإستمتاع ثم حدثت الكارثة الكبرى حيث بدأ العبث التاريخي من خلال حفر التلال الأثرية المحيطة بالجبل بواسطة جرافات وتدميرها تماما ونقل تربتها خارج الموقع .
ومن قام بهذا كله هم عمال وافدون وجدوا قليل من التستر والتجاهل أحيانا كثيرة فمارسوا نشاطهم اليومي من خلال هذه الإجراءات لأنهم وجدوا في مكتنفاته ملجأ طبيعيا وحماية لهم من التعقب ولكن تواجد السياح والزائرين مع ما يحمولنه من كاميرات تصوير ووسائل تواصل كان يجلب لهم تشويشا فحدث بعض الشجار معهم بسبب الآكام الترابية أو مد الشبوك لمعطلة لسير السيارات وكأنهم أرادوا القضاء على هذه الظاهرة من اساسها باتخاذ هذه الإجراءات الوقائية حتى بلغ بهم الأمر انهم نزعوا سقوف مبان تاريخية بالقرية الثرية القريبة وتعود للقرن الحادي عشر لبناء أكواخ وستقيف حظائرهم.
لقد بذل هؤلاء العمال البسطاء نشاطهم دون وعي منهم بخطورة ما يقدمون عليه وقد علمت أنهم جميعا أميون وبعضهم إقامته غير نظامية أصلا ولايملكون مهارات حرفيه سوى مثل هذه المناشط المعتمدة على تربية الماشية وتسويقها وبناء منازل الصفيح والأكواخ لإيوائهم ونقل التربة والرمال لصالح المنشآت المعمارية وتحويل الحفرالأثرية إلى مكبات مخلفات دون أن تتحرك الجهات المعنية بمنع التلويث على الأقل ومتابعة المتخلفين ورصد نشاطهم المشبوهة أصلا فلا نعلم ماذا يصنعون هناك؟ ومع ذلك كانوا يخشون من ردود فعل السياح أو الجهات التنفيذية فقاموا خلال الشهرين الأخيرين فقط بما يوجب كبح عوامل الجذب السياحي من خلال التشويه البصري أو إنشاء الآكام الترابية وحرق المخلفات وخاصة لإطارات السيارات حتى لا يصل لهم أحد.. ونحن لا نلومهم فهذا منتهى علمهم ولكن نلوم من يرى مثل ذلك ويستمرؤه ويعده نشاطا عاديا(أن يدمر هؤلاء العمال تلك المصادر الثقافية والجمالية والسياحية!) .فهل يستطيعون عمل هذا في بلدانهم؟
ولكن لامناص من تدخل الجهات الرقابية وإيقاف هذه الكارثة فغالبها أي نحو 95% من مساحة الأراضي هي حكومية ولا يستطيع أحد التسلط عليها بموجب النظام ولكن المعتدين اليوم مع بالغ الأسف يطبقون تجربتهم الناجحة في (الكر والفر) وفرض الأمر الواقع والزمن لصالحهم طبعا في مثل هذا الظروف فليس من الممكن أن تظل هناك حراسات أمنية دائمة تمنع تكرار هذه الحوادث وهو ما لمسناه من خلال زيارتنا دون أن يكون هناك ترتيب من قبل مواقع صنع القرار القادرة على تطبيق آلية برنامج مواقع التراث الإسلامي بكل صرامة كما حدث في بعض المواقع الأثرية والتاريخية بالمملكة.
المصادر:
1. سفر نامة،ناصر خسرو، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993 ، ص150 .وشكر بن أبي الفتوح الحسن بن جعفر توفي سنة 453هـ. العقد الثمين، ج 5،ص14 ،
2. الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها ، محمد بن محمد بن ظهيرة ، تحقيق على عمر، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، 1423هـ ص 309.
3. الشايع، ص89 .

هدى عبد العزيز الشريف/ وادي فاطمة 11/شعبان/1439هـ

بواسطة : هدى عبد العزيز الشريف
 0  0  1808
التعليقات ( 0 )

-->