• ×

هل حقًا كُتب تاريخنا لمحاباة الملوك وتلميع الأعيان والشيوخ وترويج الحكايات الكاذبة، لا لأجل رصد الحقائق؟

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
هل حقًا كُتب تاريخنا لمحاباة الملوك وتلميع الأعيان والشيوخ وترويج الحكايات الكاذبة، لا لأجل رصد الحقائق؟

هذه من أعظم الشبهات التي تثار حول تاريخنا من قبل أبناء جلدتنا - والتي تلقفوها من المنحرفة عقلًا وفكرًا - أنه صُنع لمحاباة الحكام والملوك وتلميع الأعيان والشيوخ، وأن فيه من المبالغات والكذب الشيء الكثير، ويُكتب للمنتصر من الحكام والملوك، ولم يرصد الحقائق.
وهذا من الافتراء والكذب، ففي مؤرخي الإسلام عظماء أمناء وثقات، منهم: الإمام البخاري (ت٢٥٦هـ) الذي ألف تواريخًا يعول عليها علماء الإسلام، وكذا المؤرخ الحافظ خليفة بن خياط (ت٢٤٠هـ)، والمؤرخ الحافظ أحمد بن أبي خيثمة (ت٢٧٩هـ)، والمؤرخ الحافظ الخطيب البغدادي (ت٤٦٣هـ)، والمؤرخ الحافظ ابن عساكر (ت٥٧١هـ)، والمؤرخ الحافظ البرزالي (ت٧٣٩هـ)، ومؤرخ الإسلام الحافظ شمس الدين الذهبي (ت٧٤٨هـ)، ومؤرخ المغرب الناقد ابن خلدون (ت٨٠٨هـ)، والمؤرخ الحافظ تقي الدين الفاسي المكي (ت٨٣٢هـ)، والمؤرخ الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت٨٥٢هـ)، وغيرهم.
ولبيان أن ما قيل في تاريخنا إفتراء وكذب، إليك مثالاً على أمانة مؤرخ من مؤرخي الإسلام وتجرده عن الهوى والمحاباة، ونقده للحكايات والروايات الواهية، ومثله في تاريخنا كثير :
إنه مؤرخ الإسلام والحافظ الناقد شمس الدين محمد الذهبي الدمشقي (٧٤٨هـ)، هذا الناقد الأمين ترجم لشيخه العلامة القاضي محمد بن عبدالله الإربلي، فذكر أنه كان يرتشي، بالرغم من أنه كان مُحسنًا إليه، فقال: (سمعنا منه، وما أدري ما أقول فالله يسامحه، وإن أسكت؛ فلسان الكون ناطق بما ثمّ من الرشاوى، والله يسامحه فقد كان مُحسنًا إلي). (المعجم المختص) (ص٢٠٧).
وترجم لشيخه محمد بن أحمد الحراني المقرئ الزاهد (ت٧٠٥هـ)، فقال: (إنه كان حَفَظَةً للحكايات والملح، إلا أنه لا يوثق بنقله). (المعجم الكبير) (٢:١٦٦).
وترجم لشيخه ابن النحاس محمد بن أيوب الشاهد (ت٧٢١هـ)، فقال: (هو ممن سمعنا منه، ولا تحل الرواية عنه أصلاً، حدثني الحافظ الصلاح والتاج ابن السكاكري عنه بعظائم وزندقة). (المعجم الكبير) (٢:١٧٧).
ووقف الذهبي على أثبات* (كُتب) شيوخ عبث بها شيخه عبدالله بن الحسين الأنصاري (ت٧٣٥هـ)، وذلك بإلحاق اسمه في سماعاتها أو إجازاتها، فكشف أمره، وقال عنه: (تفرد في وقته بأجزاء عالية وغيره أعدل منه - سامحه الله - وقد ألحق اسمه في أثبات له، لكن ما أخذ عنه من ذاك شيء).(المعجم الكبير) (١:٣٢١).
وكذلك قال عن شيخه ابن الفوطي عبدالرزاق بن أحمد البغدادي (ت٧٢٣هـ): (فاق علماء الآفاق في علم التاريخ وأيام الناس، وصنف في ذلك، ومع سعة معرفته؛ لم يكن بالثبت في ما يترجمه، ولا يتورع في مدح الفجار، ولم يكن بالعدل في دينه). (المعجم المختص) (ص١٤٤).
وانتقد الذهبي الحكاية المنسوبة للإمام أبي حنيفة النعمان، لمّا سأل عن عواقب دراسة العلوم، فقيل له: إن سمعت الحديث وحفظته، اجتمع عليك الأحداث والصبيان، ولم تأمن الغلط فيرمونك بالكذب، ويصير ذلك عارًا عليك.
قال الذهبي: الآن كما جزمت بأنها حكاية مختلقة، فإن الإمام أبا حنيفة طلب الحديث، وأكثر منه في سنة مائة وبعدها، ولم يكن إذ ذاك يسمع الحديث الصبيان، هذا اصطلاح وجد بعد ثلاث مائة سنة، بل كان يطلبه كبار العلماء، بل لم يكن للفقهاء علم بعد القرآن سواه، ولا كانت قد دونت كتب الفقه أصلاً.
ثم اقترحوا على أبي حنيفة دراسة علم الكلام وحذروا منه.
فعلق المؤرخ الذهبي على هذه الحكاية قائلاً: قلت: قاتل الله من وضع هذه الخرافة، وهل كان في ذلك الوقت وجد علم الكلام؟!!
(سير أعلام النبلاء) (٦/ ٣٩٥).
ومثله المؤرخ والحافظ تقي الدين محمد بن أحمد الفاسي المكي (ت٨٣٢هـ) ترجم في كتابه: (العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين) لجمع كبير من العلماء والأمراء والأحداث التي وقعت في ولاياتهم، فذكر ما لهم وما عليهم والمحسن منهم والمسيء بتجرد وأمانة، وهو بين أيديهم وتحت ولايتهم. فأين هذا المتنطع القائل: إن التواريخ تكتب لمحاباة الملوك والمنتصر!!
أمّا ما وقع من مجازفات ومبالغات وروايات واهية في كتب بعض المؤرخين الذين يعدون قلّة - والحمدلله -، فقد نبه العلماء عليها، ولم يجعلوها تمر مرور الكرام. وإليك أمثلة على نقد تلك المبالغات والروايات الكاذبة:
شيخ القراء بالإسكندرية عيسى بن عبدالعزيز الشريشي (ت629هـ)، له كتاب «الجامع الأكبر والبحر الأزخر» في اختلاف القراء، يحتوي على سبعة آلاف رواية وطريق.
قال مؤرخ الإسلام الذهبي: (ومن هذا الكتاب وقع الناس فيه، والله أعلم بما يُخفيه.
وقد طال الخطاب في كشف حال الرجل. وبدون ما ذكرنا يُترك الشخص، أما خاف من الله إذ زعم أنه صنف كتاباً فيه سبعة آلاف رواية؟ فوالله إن القراء كلهم من الصحابة إلى زمانه - أعني الذين سُموا من أهل الأداء في المشارق والمغارب ودُونوا في التواريخ - لا يبلغون سبعة آلاف بل ولا أربعة آلاف وأنا مُتردد في الثلاثة آلاف هل يصلون إليها أم لا؟
هذا أبو القاسم الهُذلي الذي لم يرحل أحدٌ في القراءات ولا في الحديث مثله، وله مئة شيخ قرأ عليهم القرآن، جمع في كتابه الغث والسمين، والمشهور والشاذ، والعالي والنازل، وما تحل القراءة به وما لا تحل، وأربى على المُتقدمين والمتأخرين لم يُمكنه أن يأتي في كتابه بأكثر من خمسين رواية من ألف طريق، وقد يكون الطريق مثل أن يروي مُسلم الحديث عن قُتيبة عن الليث، وعن عبدالملك بن شُعيب بن الليث، عن أبيه، عن الليث، فيسمي ذلك الطريقين.
وما أنا ممن يُتهم بالحط على ابن عيسى، فلو كنت مُداهناً أحداً لداهنت في أمره، لأنني قرأت «التيسير» في مجلس على سبط زيادة بأصل سماعه منه. قال: أخبرنا عبدالله بن محمد بن خلف، أخبرنا ابن عبدالقدوس عن مؤلفه، فوددت لو ثبت لي هذا الإسنادُ العالي، ولكنه شيء لا يصحُّ». «تاريخ الإسلام» (13/ 904).
وانتقد العلماء المؤرخ سبط ابن الجوزي، يوسف بن قُزغلي، المؤرخ (ت٦٥٤هـ) على الأخبار المنكرة في تاريخه، قال الحافظ الذهبي: (ألف كتاب «مرآة الزمان»، فتراه يأتي فيه بمناكير الحكايات، وما أظنه بثقة فيما ينقله، بل يَجْنِفُ ويجازف، نسأل الله العافية». (ميزان الاعتدال) (٤/٤٧١).
ثم تتبع كثيرًا من حكاياته الباطلة ونقدها نقدًا لاذعًا، ومنها قوله: (انهدمت بغداد بأسرها، والمحال، ووصل الماء إلى رأس السور، ولم يبق له أن يطفح على السور إلا مقدار إصبعين، وأيقن الناس بالهلاك، ودام ثمانية أيام، ثم نقص الماء، وبقيت بغداد من الجانبين تلولاً لا أثر لها!).
فتعقبه الذهبي وقال: (هذا من خسف أبي المظفر، فهو مُجازف). (تاريخ الإسلام) (13/ 272).
ولمّا توفي الإمام أحمد بن حنبل الشيباني سنة ٢٤١هـ ذكر الوركاني أنه أسلم يوم موت أحمد عشرون ألفًا.
فتعقب الرواية المؤرخ الذهبي وقال: لا يدرى من هذا الوركاني ولا تابعه على هذا القول أحدٌ، ولو وقع هذا لتوفرت الهمم على نقله مثله. (ميزان الاعتدال) (٣٣٢:٤).
ومن الأمثلة كذلك أن المؤرخ والحافظ الناقد الذهبي ذكر أن المؤرخ عبداللطيف بن يوسف بن محمد البغدادي (ت٦٢٩هـ) أورد حكاية بأنه وقع بلاء شديد بمصر، أكل الناس لحوم بني آدم.
فتعقبه المؤرخ الذهبي قائلاً: (في كتابه هذا خسف وإفك. وفيه أن عِرقة وصافيثا خُسف بهما). (سير أعلام النبلاء) (٢٢:٢٢٠).
وذكر المؤرخ الموفق عبداللطيف حكاية أخرى بأنه اتصل به كتابان أوردهما بلفظهما، في أحدهما: أن زلزلة وقعت بمصر كادت لها الأرض تسير سيراً، والجبال تمور مورًا، وأنها دامت بمقدار ما قرأ سورة الكهف).
فتعقبه المؤرخ الذهبي قائلاً: (هذا كذب وفجور من كاتب هذه المكاتبة، أما استحى من الله تعالى). (تاريخ الإسلام) (١٢/ 946).
ووقف المؤرخ الذهبي على كتاب في سيرة عالم فيه خزعبلات وخرافات وكذب، فكشف أمره وحذر الناس منه قائلاً: (جمع الشيخ علي بن يوسف الشطنوفي كتابًا حافلاً في سيرة الشيخ عبدالقادر الجيلي وأخباره في ثلاث مجلدات، أتى فيه بالبرة وأذن الجرة، وبالصحيح والواهي والمكذوب، فإنه كتب فيه حكايات عن قوم لا صدق لهم، كما حكوا أن الشيخ مشى في الهواء من منبره ثلاثة عشرة خُطوة في المجلس، ومنها أن الشيخ وعظ، فلم يتحرك أحدٌ فقال: أنتم لا تتحركون ولا تطربون، ياقناديل اطربي، فتحركت القناديل ورقصت الأطباق). (تاريخ الإسلام) (٢٥٢:١٢).
وللفائدة: لقد جمعت قبل عشرين سنة مئات الحكايات والروايات الواهية التي انتقدها مؤرخ الإسلام الذهبي في تواريخه في مجلد، فلعل الله ييسر إخراجها.
ها أنا قد سُقت لك أمثلة على أمانة ومصداقية مؤرخ من مؤرخي الإسلام، والأمثلة كثيرة، وغير المأمون منهم والمتساهلة قلة - والحمدلله -. فبالله عليك أيصح بعد هذه الأمثلة أن يقال: إن تاريخنا كُتب لمحاباة الملوك وتلميع الأعيان والشيوخ، وترويج الأكاذيب؟
أو ليس الأولى أن نفتخر بتاريخنا الذي كتبه الثقات الأعلام، ونقول: إن ما وقع فيه بعض المؤرخين من مبالغات ومحاباة وروايات واهية وقعت من قلة قليلة لا تقارن أبدًا بما ألفه الثقات، ومع ذلك تعقب النقاد هذه المبالغات والروايات الواهية وأبطلوها.
وصلى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبها:
إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير
26 رمضان 1438هـ

*أثْبَات: جمع ثَبَت، وهو الكتاب الذي يُثبت فيه المحدث الروايات والآثار التي سمعه مع أسماء المشاركين له فيه.

بواسطة : إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير
 1  0  3142
التعليقات ( 1 )

الترتيب بـ
الأحدث
الأقدم
الملائم
-->