• ×

مقالٌ في المُشَجَّر

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

مقالٌ في المُشَجَّر
تأليف
السيد الحسين بن حيدر الهاشمي

مدخل:
لما نزل قول الله تعالى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} وقوله تعالى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} في نزولها الثاني بعد دعوته الخاصة لبني هاشم، صعد النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جبل الصفا قرب الكعبة وجعل ينادي في قبائل قريش قبيلة قبيلة ؛ فَقَالَ : يَا بَنِي فِهْر ، فَاجْتَمَعُوا . ثُمَّ قَالَ : يَا بَنِي غَالِب ، فَتَأخَّرَ بَنُو مُحَارِب وَالْحَارِث اِبْنَا فِهْر . فَقَالَ : يَا بَنِي لُؤَيّ ، فَتَأخَّرَ بَنُو الْأَدْرَم بْن غَالِب . فَقَالَ : يَا آلَ كَعْب ، فَتَأخَّرَ بَنُو عَدِيّ وَسَهْم وَجُمَح فَقَالَ : يَا آلَ كِلَاب ، فَتَأخَّرَ بَنُو مَخْزُوم وَتَيْم . فَقَالَ : يَا آلَ قُصَيّ ، فَتَأخَّرَ بَنُو زُهْرَة . فَقَالَ : يَا آلَ عَبْد مَنَافٍ ، فَتَأخَّرَ بَنُو عَبْد الدَّار وَعَبْد الْعُزَّى . فَقَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ : هَؤُلَاءِ بَنُو عَبْد مَنَافٍ عِنْدَك . فتشكلوا أمامه على درجة القرب كالشجرة ، ثم دعاهم إلى الله .. وهذه الحادثة نبهت المسلمين إلى فكرة التشجير أو شجرة النسب من بعد أميتهم كما انتبهوا إلى الكتابة والقراءة ، فكان قومه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في عُرْفِ الشجرة ، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قد تَسَنَّمَهُم . وهذه الشجرة هي التي احتج بها المهاجرون من قريش على الأنصار يوم السقيفة ، فقالوا لهم : رسولُ اللهِ مِن قريشٍ ونحن شجرتُه .

تعريف مشجر النسب:
مشجرُ النَّسب مصطلحٌ مؤلفٌ من كلمتين اثنتين ، الكلمة الأولى : مشجرٌ أو شجرةٌ . والكلمة الثانية : كلمة النسب . ولابد في الحَدِّ مِن إفراد كل كلمةٍ على حِدة ، وقد سبق لنا أن عرفنا علم النسب في رسالةٍ سابقةٍ ، وبقي أن نذكر حَدَّ الشجرة أو المشجر في اصطلاح النسابين .
في البدء رأيتُ أن أُعرِّف شجرة النسب أو مشجر النسب كما هو في اصطلاح النسابين .
إذ هو بعبارة واضحة: تفريع للأفراد عن أصل لهم تفريعاً بيانياً على صحيفة.
أو ذكر للأفراد بيانياً ؛ ومن ثم الارتقاء بأنسابهم إلى أصولها مع ذكر تفرعات الأصول .
وبعبارة المتأخرين : رسمُ طبقةَ نسبٍ على الصحيفة على شكل الشجرة النبات ؛ سواء على صورة الشجرة أو في حكمها .
أو كما أسلفنا فروع تمتد عن أصل ، وأصول تدلي بفروع .
ومناسبة المعنى الاصطلاحي للمعني اللغوي أن مادة شجر تأتي على عدة معاني في اللغة العربية ، هذا متى سُلم بأن تشجير الأنساب كان من اختراع النسابين العرب والمسلمين :
1. الربط بين الفروع والأصول. يقال : شَجَرَ الشيءَ يَشْجُره شَجْراً إذا ربطه . فالمناسبة هنا هي ربط الفروع بالأصول ، لأن النسب هو الرابطة التي بين الأصول والفروع .
2. تَعْمِيْدُ بيت النسب. يقال في بيت السُّكنَى : شَجَرْتُ البيتَ أشْجُره شَجراً إذا عمَّدته بعمود ، وكل شيء عمدته بِعِمَادٍ فقد شجرته . فالمناسبة واضحة هنا حيث يعمد المشجِر إلى ذكر عمود نسب لطبقة من طبقات النسب ، وهذا المعنى أسعد المناسبات من هذا الوجه .
3. التشبيك للشيء. إذ إن الشجرُ والاشتجار هو التشبيك ، كما أن الأنساب متواشجة بمعنى أنها متداخلة ، وسمي الشجرُ النبات شجراً لدخول أغصانه في بعض ، وكذلك هي الأنساب أشبهت الأشجار في التداخل والتشابك ، ومن أجل ذلك يقال للرسم البياني للأنساب : تشجير ؛ ومشجر . ومن هذا المعنى أخذ النسابون مصطلح التشجير الذي هو رَسْمُ تفريعٍ للأنساب المتواشجة .
4. الرفع للشيء. إذ إن الشَّجْرُ هو الرفع ، وكل شيءٍ رُفِعَ وسُمِكَ فقد شُجِرَ . وهذا المعنى هو أسعد المعاني بمشجر النسب من جهة أن المشجَّر يُبْتدأ فيه بالفرع ومن ثم يُشْرع بالتأصيل له ، أي رفع نسبه حتى الجد الأعلى . وهذا المعنى يصدق على المشجرات التي يُبتدئ فيها بالفرع كما هي الطريقة الغالبة .

طريقة تدوين النسب:
تُدوَّن الأنساب وتحفظ بطريقتين عند أهل الرواية والدراية:
الطريقة الأولى : المبسوط ، وجمعه مبسوطات .
وهي طريقة سرد الأنساب في الصحف كما يُسرد الكلام من غير رسم ، وذلك ببسط الكلام ؛ وسرد بعضه وراء بعض ، والمبسوط عند أهل العلم ما كان في مقابل المختصر ؛ أي المُطَوَّلات التي استغنت عن شرح ، لأنها هي نفسها شرح موسَّع . خلافاً لأهل النسب الذين يعنون بالمبسوط ما كان في مقابل المشجر ، وكأنهم أخذوه من معناه اللغوي وهو الاستواء فيكون بِلا نشوزٍ ؛ خلافاً لذاك النشوز الذي توهَّموه في المشجر .
الطريقة الثانية : المشجر ، وجمعه مشجرات .
وقليل من القدماء من كان يشجر الأنساب ، إذ مع إتقانهم لعلم النسب إلا أنه فنٌ يتطلب مهارة في الرسم ، واستعداداً فنياً ، وهذا قد لا يتقنه النسابة ، وهو يخشى أن يغامر بِرسمِ مبسوطِه فيكون ذلك على حساب الضبط ؛ ويُحدِث لمن بعده لبساً أو وهماً ، فالاستعداد الفني هنا يكون مُقَدَّماً على الاستعداد العلمي .

أنواع مشجرات الأنساب:
كان القدماء يعتمدون نوعاً واحداً ، إما أنهم يستحسنونه ، وإما أنهم يقلدون سلفهم فيه ، وفي العصور المتأخرة ولا سيما في العصر الحديث ، استجدَّت أنواعٌ ؛ ونحن نذكر الأنواع كلها في الفقرات التالية :
1) المشجرات الأفقية في الشكل. وإنما قلنا أفقية في الشكل لأجل أنها أفقية في الرسم لا في واقع الطبقة النَسَبِيَّة ، لأن النسب إما عاموديٌّ ويمثل الأصل والفرع/الفصل ، أي الآباء والأبناء ، وإما نسب أفقيّ وهم الإخوة والأعمام . وكلامنا عن المشجر الأفقي لا عن النسب الأفقي ، فالمشجر الأفقي يُرسم في صفحات متتالية ، وهذه المشجرات نوعان ، النوع الأول: يبدأ النسابةُ فيه بذكر الفرع ومن ثَمَّ الأصل ، بمعني أنه يَذكر الابنَ ، ثم يخطُّ كلمة (بن) ويزيد في مَطِّها ؛ كيفما اقتضت مصلحةُ الرسم ؛ وكيفما اقتضى طول المشجر ، ثم يذكر الأب. فالرابطةُ التي بين الابن وأبيه تُبيَّنُ بكلمة (بن) ؛ بمعنى (ابن) لكنها مجَرَّدةً من الألف ؛ وتكون بنفس لون الخط ، ثم يخطَّ كلمة (بن) أخرى فيذكر جَدَّه .. وهكذا دواليك حتى يأتي على ذكر جميع آباء السلسلة حتى يصل لمفصلٍ/طبقة في عمود النسب أو يصل إلى القبيلة رأساً . وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء ، وهو المعني بقولهم مشجر ، مع ملاحظة أنَّ السلف من النسابين كرهوا أن يربطوا بين الوالد وولده بخط مجرد أو أي دلالة أخرى غير كلمة (بن) التي بنفس لون اسم الوالد والولد ، بل إن الخط المجرد له دلالة أخرى في اصطلاحهم ، وكذا كلمة (بن) بالخط الأحمر تدل على الشك في الاتصال ، ولسنا في هذه الرسالة بصدد تبيين مصطلحات القوم .
وليس الاستغناء عن كلمة (ابن) مما اختص به العجم ، وإنما هو مما تميَّز به المتأخرون .
ومثال هذا النوع من التشجير كتاب (بحر الأنساب) لابن العميد.
النوع الثاني من المشجر الأفقي هو ما كان على عكس الأول ، حيث يقوم الناسب بذكر الأب الجامع للقبيلة ثم يتبعه بذكر أولاده لصُلبه ، فأولاد أولاده ، حتى الأفراد المعاصرين له ، ومثاله (مشجر سبائك الذهب للسويدي) . ويجب ملاحظة أنه ليس من الضروري في المشجر الاصطلاحي أن يتطابق مع معنى الشجرة النبات ، ولذا تنوع الناس في الجهة التي يبدأ فيها مشجرهم والأخرى التي ينتهي فيها .
2) مشجرات عامودية في الشكل. وهذه أيضاً نوعان ، نوع يكون فيه جد القبيلة أو الأسرة في أعلى الصحيفة ، ومنه تتدلى الفروع/الفصول . والنوع الآخر على عكسه ، فيكون جد القبيلة أو الأسرة في أسفل الصحيفة ، ومن عنده ترتفع الفروع/الفصول إلى أعلى الصحيفة ، وهذا هو السائد الآن بين كُتَّابِ الأنساب ومشجريها ، ومن أمثلة المشجرات العامودية تلك التي شجَّر بها (الأستاذ محمد فردوس العظم) كتابيْ الإمام ابن الكلبي (الجمهرة) و (نسب معد واليمن الكبير) .
3) مشجرات الأمهات. وهو مشجر الأصول المؤنثة ، كما فعلتُ في كتابي جمهرة أنساب أمهات النبي صلى الله عليه وآله وسلم (النسخة المطبوعة) .
4) مشجرات عامة. ويُقصد بها تلك المشجرات التي تكون بمثابة الفهرسة ، ولذا تسمى بمشجرات الفهرسة ، أو المشجرات السسيلوجية العامة ، حيث يستدل بها الدارس الاجتماعي والدارس للنسب على القبائل العظام ، أو البطون والأفخاذ ، أي أصول الأنساب ، فهي تعطي نظرة عامة على الأنساب ، كالمشجر العام لأولاد سام بن نوح ، وحام بن نوح ، ويافث بن نوح ، حيث يذكر فيه الشعوب التي أعقبها هؤلاء ، وكمشجر العدنانيين العام ، أو مشجر القحطانيين العام .
5) مشجرات خاصة. وهي تلك المشجرات التي تُفصِّل في ذكر أفراد القبيلة الواحدة أو الأسرة ، وتسمى بالمشجرات الخاصة ، أو التي تدرس قبيلة أو أسرة دراسة اجتماعية ، وتسمى بالمشجرات السوسيولوجية الخاصة .
6) مشجرات أطلسية. وهي مشجرات إقليمية أو مشجرات قُطْرِية . وهي تلك المشجرات التي تختص بذكر أنساب أهل إقليم من الأقاليم ، أو قطر من الأقطار ، وهذه المشجرات مهمة جداً إما في حفظ النسب وإما في الدراسات الانثولوجية والسوسيولوجية ، وهي إما :
أ*- مشجرات أطلسية تاريخية . وهذه إما أن تكون مشجرات قبائل أو أُسَر لإقليم ، وإما أنها مشجرات أمراء وحكام الإقليم ، كتلك التي رسمتها دائرة المعارف البريطانية تحت مادة (أشراف) ، (شرفاء المغرب) وهي لأصول مختلفة من الأشراف ، وكمشجر أمراء المشعشعين في العراق ، ومشجر أمراء مكة ، وكمشجر الخلفاء من زمن الراشدين وحتى آخر العباسيين ، حيث تُنَزَّل الدولة منزلة الإقليم الواحد . وفي هذه المشجرات يذكر فقط الخليفة أو الأمير ، فهو مشجر لا يجمع كل أفراد طبقة النسب ، وإنما يقتصر على من ولي الأمارة أو الخلافة ، ومن أبرز أمثلته كتاب الأسر الحاكمة في التاريخ الإسلامي .
ب*- وإما مشجرات طبغرافية . بمعنى أنها مشجرات أطلسية جغرافية ، تُعبِّر عن التوزع الجغرافي لقبيلة أو غيرها من طبقات النسب ، وربما تحوي رموزاً ذات دلالة جغرافية أو إنسانية .
ت*- مشجرات جغرافية تاريخية/جغراخية. ومنها ما يعرف لدى أهل النسب بجرائد الأنساب ، حيث يقوم النسابة أو النقيب بِجَرْدِ أبناءَ القبيلة في جهة معينة ، كجرد الأشراف في مدينة من المدن ، أو جرد الحسنيين عن الحسينيين من أهل البلدة الواحدة ، أو أن يحضر رجل معروف النسب إلى قاضي بلدته ليصدر له صكاً يحفظ نسبه المشتهر به عند أهل بلدته .
7) مشجر نجمي. وهو مشجر يكون الأصل أو الجد في مركز الصحيفة ، كقطبِ الرَّحى ، ومنه تتشعب الفروع ، تشبيهاً له بالنجمِ والنجمُ : نباتٌ يفترش السطح وينجم على غير ساق . ويمكن تسميته بالمشجر الإسقاطي أو الانبثاقي ، وهو كأنه صورة للشجرة من أعلاها ، حيث تصور الشجرة على الصحيفة كسطح مستو .
8) مشجر شجري. بمعنى أن يكون المشجر على صورة الشجرة النبات ، وهو خلاف المشجر التقليدي الذي عليه العمل عند القدماء ، حيث كان النسابة لا يحرص على أن يكون على هيئة الشجرة النبات، ومشجر الشجرة هو أجمل في الصورة إلا أنه قد يُشْكِلُ ، فلا يمكن الاعتماد عليه في بسط الأفراد ، وربما طغى فيه المظهر على حساب البيان والإتقان .
9) مشجر المصاهرات . فيُذكر فيه الأصهار ، ويُتفاخر بهم ، كما نجده مثلاً في مشجرات ملوك أوربا وعظمائها ، لأن الملك فيهم قد يُتوارث بالمصاهرات .
10) مشجر متصل. وهو المشجر الذي يتصل فيه الفرع بأصل أعلى مشهور في التاريخ ، كاتصال قريش ، وتميم ، وربيعة ؛ بعدنان . أما المشجر الذي هو في حكم المتصل فهو مشجر يربط فيه بين أفراد طبقة النسب إجمالاً مع تيقن الاتصال ، فهي أنساب في حكم المتصلة ، ويفعلونه إما اختصاراً للمشجر ، وإما لأن سلاسل النسب قد فُقدت لعدم الاعتناء بتدوين الأنساب في عصور كئيبة حالكة مرَّت على المسلمين ، فحاول المتأخرون أن يستدركوها إلا أنهم عجزوا ، وهذا يفعله كثير من الأسرة الحضرية الذين وصَّلوا بين أفراد الأسرة إلى جدٍّ جامع توقفوا عنده ، ويفعله كثير من أبناء القبائل من الذين وصَّلوا أفراد القبيلة بأصل جامع أو البطون بالقبيلة ، مع التغاضي عن ذكر السلسلة إلى الجِذْم البعيد ، وهو ليس بعيب في النسب كما قلنا ، ولا يكون مدعاة للطعن في الأنساب البتة ، وهو خير ممن يدعي جَدَّاً كذِباً وزوراً ، أو يدعي سلسلة لا واقع لها فيربط بها المتقدم بالمتأخر ، ومن يفعل هذا فإنه يقال ـ في المقابل ـ لمشجره : مشجرٌ منقطعٌ ، وسلسلةُ كَذِبٍ ، وهو وإن صحَّ أوله وآخره ، إلا أن أوسطه لا يصِحُّ بحال . ومن استفاضت نسبتهم إلى جِذم قديم ولم نجد من طعن في نسبتهم مع قِدم دعواهم وكثرة عددهم فإنا لا نطالبهم بسلسلة نسب لنصدِّق دعواهم ، كما لو فرضنا أن قوماً استفاضت نسبتهم إلى العمالقة ، ويعرف أفرادهم بالعمليقي ، وكانوا قد فقدوا سلسلة النسب ، وقد مضى لعمليق أكثر من ألفي عام ، فإن الذي يصير إليه أهل النسب إنما هو تصديقهم في دعواهم ، ولا يكذبونهم بحجة جهل السلسلة ، بل هي متصلة حكماً ، فيوصل المشجر مختصراً إلى عمليق.
11) مشجرات مصادر وأمهات. فهي مشجرات يعتمد عليها النسابون ، ويرجعون إليها ، إذ هي مصادر وأصول لا سابق لها ، أو في حكم السابق وذلك متى كان مُشجِرها نسابة عُمدةٌ في التحرير ؛ والتحقيق ؛ والتتبع . خلافاً لمشجرات أخرى ما هي إلا تكرار وتقليد لما قبلها ، ونوع ثالث ؛ وهي المشجرات المكذوبة ، وقد يأتي متأخر متساهل أو عابث فيزيد على مشجر هو أصل أو في حكم الأصل ، وهو في الحقيقة لا يُشكر على عمله هذا ، وإنما يشكر متى كان على شرط صاحب المشجر وفي درجته في العلم والدراية والتحرير ، بمعنى إن كان هذا التذييل لأحد الأعلام المعتمدين عند أهل الاختصاص ، أو متى كان صاحب التذييل أحد مُشجرِي الطبقات ، ونقصد بمشجري الطبقات أولئك الأبدال الذين يتداولون المشجر خلفاً عن سلف فيزيدون فيه ما يطرأ من أخبار وأحداث كالمواليد من نفس أو نفسين أو ثلاثة أو الوفيات ، أما أولئك الذين يأتون بعد تقلُبِ العصور ؛ وتصرم الدهور ، فيُذَيِّلون المشجر بالسلاسل الطويلة ؛ فغالباً ما يفعلون عبثاً ، ولذا فإن مرتضى الزبيدي والرفاعي يُتابعان في زياداتهما ولا يُسلم لهما ما زادا في المشجر الكشاف إلا ما اعتمده نسابو أهل البيت ، ولا يعني كلامنا أن لا دراية لهما بالأنساب ، بل لأنهما لم يلتزما بقوانين المهنة ، ولأجل تساهلهما في مواطن الحزم ، وهذا ما يعني أن هناك مشجرات متشددة ، وأخرى متساهلة ، وثالثة متوسطة ، والتشدد تمليه بعضُ الظروفِ ، وفي بعض الأحيان تمليه أمراضُ القلوبِ ، والتساهل تمليه الغفلةُ وانعدام الحذق والجهل بقوانين المهنة ، وأما التوسط الذي هو الاعتدال ؛ وأما الفضيلة التي تكون بين رذيلتيْن ؛ فإن دلَّ ذلك على شيء فإنما يدل على تقوى الله ؛ وعلى العلم ؛ والدراية بالأنساب وقوانينها ؛ والمعرفة بالأصول المنطقية.

فوائد المشجرات وخصائصها:
للمشجرات فوائد تتبين لكل مُبتدئ مستفيد، ولها خصائص يدركها المختصون بِعلمِ الأنساب ، والمعتنون بِحفظها ، درايةً وروايةً ، الذين لهم النهاية في هذا الفن ، وهي ليست وسيلة للتباهي والفخر في حقيقة الأمر لدى المؤرخ ، ولكن لها وظيفة علمية ؛ وفنية ؛ وتربوية ؛ يدركها أهل هذا العلم ، كما أنها وسيلة جادة ومهمة في الدراية بالأنساب وروايتها ، وقد لا تتبين هذه الخصائص لمن تعلم الأنساب لأجل خُلُقٍ خسيسٍ كالطعن ، ورواية المعايب والمثالب ، ولأجل إتقان الوضع والكذب . وهذه الفوائد والخصائص التي نُجْمِلها هنا:
1) معرفة طبقات النسب ، وتحديد مفاصله ، فبالمشجر تتبين بوضوح القبائل عن البطون ، والبطون عن الأفخاذ ..
2) في المبسوط يُخشى من أن يسهو النسابة أو الناسخ عن طبقة/فرد في السلسة ، في حين أن السهو في المشجر يكون أبين وأظهر ، وحال الزيادة فيه كحال النقصان ، وذلك بخلاف المبسوط ، فالمشجر يتيح للنسابة تقييم عمله في المبسوط .
3) في المشجر يُؤْمَن اللبس متى وافق اسم الابن اسم أبيه أكثر من المبسوط ، مع أنهم يشيرون إلى هذه الموافقة في كلا الحالتين لئلا يحصل اللبس .
4) بالمشجر يتبين لنا المُكثر مِن المُقل من أهل الشجرة الواحدة .
5) بالمشجر تتبين لنا السلسلةُ الظاعنةُ لغير محلها ، المتنقلة عن غير موطنها ، فتُرَدُّ بِخبرةِ خبيرٍ وعَلمِ عالمٍ إلى مكانها .
6) القراءة السريعة للأنساب ، مع الإحاطة بدلالات الرموز على مقتضيات المشجر وقضاياه ، واستخلاص المعاني منها ، فجميع حقائق أنساب الأسرة أو القبيلة ومظاهرها كلها تكون مُسْقَطةً في المشجر برموز تشير إلى تلك الحقائق ، وهذه الرموز بمثابة الملح في الطعام ، وهي التي تجعل من المشجر وسيلةً تعليميةً ، ووثيقةً تأريخيةً ؛ تؤديان وظيفتيهما على الوجه الذي أريد منه ، فالمشجرات نوع من الخرائط الطبوغرافية ، وهي هنا بمثابة طبغرافيا لمبسوطات الأنساب ، مثلما أن الأنثروبولوجيا طبوغرافيا الإنسان ، فالمشجر يعني للنسابة الكثير من الإجابات ، وعليه يجد الكثير من التفاصيل ، ومنها يجني الكثير من الفوائد والأحكام كماً وكيفاً ، شأن الخريطة التي ترسم عليها جميع المظاهر الطبيعية والبشرية ، فالمشجر وفي كلمة أخيرة يعطي انطباعاً عاماً على نسب القبيلة ، واستقراءاً للنسب ، لا نملك أن نقول ، إلا أنه مكملٌ للمبسوط ، فالمشجر إنما هو مساعد للطالب المبتديء على الدراسة التفصيلية للأنساب.
7) مع وجود أكثر من أخ له نفس الاسم يحصل اللبس وربما الوهم ، بينما المشجر يحجز هذا عن هذا ، ويبين ما لهذا وما لأخيه من الولد والأمهات والأزواج.
8) النسابة صاحب التحرير يلجأ إلى المشجر ليتحقق من عمله في المبسوط ، ويكون المشجر متابع له ، فبعض العلماء يُشجِّر أولاً ثم يبسط ، وبعضهم يبسط أولاً ثم يشجِّر ، وفي كلتا الحالتين يكون عمله هذا للتحرير والتحقيق والتدقيق والمتابعة ، فقد تقررت في علم المنطق طريقتان للاختبار تطبقان في جميع النواحي الفنية والعلمية والفكرية . الطريقة الأولى : الاستقراء . فأنت تستقريء مشجراً أمامك وتدرسه دراسة كاملة متكاملة ؛ ثم تقوم بتحليله وفَكِّه إلى أجزاء في المبسوط ، بمعنى أنك تبسطه من بعد أن شجَّرته. والطريقة الثانية : الاستنتاج والتركيب . وهي على عكس السابقة ، حيث أنك تقوم بتشجير المبسوط ، وتركيب المفرَّق ، لتحصل على نتيجة صحيحة .
9) يستعين النسابة بالمشجر في حفظ الأنساب ، وفي استحضارها ، وفي مراجعتها ، كل ذلك في وقت موجز ، أما المبسوط فيحتاج فيه إلى وقت أطول بالنسبة إلى المشجر .
10) بالمشجر يتمكن النسابةُ من أن يُثبت بشكلٍ أفضل للنسابة الآخر ما كان منه من نحو سهو ، أو وهم ، أو خطأ ، فيُلزمه به ، ويأخذ بيده إلى المهيعة الصحيحة.
11) بالمشجر يتمكن النسابة مِن تبيين عَوَرِ السلاسل التي أوردها الأدعياء لأنفسهم ، أو الوُضَّاع والقصاص لغيرهم (تُجَّار الأنساب في سوقهم السوداء) ، فبالمشجر يعمل النسابة أو النقيب على إلزام الدَّعي بِكذبه وزُورِه ، فالغصن اللصيق بالشجرة الثابتة ، يتبين عَوَرُهُ بالرَّسم المشجر ، فيظهر حينئذ إما انقطاعُ السلسلةِ ، أو شذوذها ، أو انفرادها ، فالسلسلة المستطيلة المجردة من حواشي النسب على طولها عبر العصور التاريخية ـ أي التي لا متابعة لها ولا شواهد ـ تبدو بِرسم المشجر وكأنها أفعى ملْساء رقْطاء في طرفها رأسها ، وكطريق السوء في صحراء بلقع لا أنيس بها ، تسكنها الشياطين على طولها ، ويرتادها القطاعُ واللصوصُ على شَرِّهَا ، بِخلاف القرية العامرة ، والطريق المستقيمة الصحيحة ، التي لا سُوء فيها ولا أذى ، والشأن في ذلك شأن الخبر المكذوب الذي يدليه واضعه بِسلسلةٍ مفردةٍ لا شاهد لها ولا متابع كما هو مقرر في علوم الحديث والأثر ، والمحَدِّثون يلجأون إلى التشجير كَفَنٍ مُتممٍ لأجل فهم الحديثِ والدراية به ؛ وكعلمٍ لا بد منه لأجل الوقوف على مكامِن العِلَل والنَّكارةِ التي تكون في السند ..
12) بالمشجر يتمكن طالب علم النسب من عقد المقارنة بين السلاسل ، وإبراز المغايرة فيها ما لو فُرض وجود مغايرة .
13) كل طبقة في السلسلة تكون ثمرة عن التي قبلها ، فما كان قبلاً كان أصلاً لما هو بعدُ ، فعند استقراء التمرة يحاط علماً بالنخلة ، وعند استقراء النخلة يحاط علماً بالتمرة .
14) بالمشجر يتضح الطَّرِيف من القَعْدُدِ ، والعالي من النازل .
15) المشجر يكون معونة للفقيه عند قسمة المواريث .
16) بالمشجر تختصر السجلات والأسفار على صحيفة واحدة ، فيسهل تناقلها وتنقُّلها .
17) بالمشجر يتضح المعقبين من الذين لم يعقبوا .
18) المشجر أبهةٌ للملوك ، ووسيلةٌ يتخذونها لترسيخ الملك .
19) المشجر تسلية للنسابة لئلا يَمل أو يَكل .
20) المشجر يكون بمثابة الفهرست للمبسوط ، وكالدليل السهل المنال على القبائل والبطون بل وعلى الأفراد أيضاً .
21) المشجر بداية للمبتديء ، وغاية للمنتهي ، فكما أن المشجر يكون حافزاً للمبتديء وتنشيطاً له في مدارسة هذا الفن ، فإنه يكون كذلك تذكرة للمنتهي المجتهد .
22) المشجرات تعين على دراسة القبيلة أو الأسرة دراسة سسيولوجية ، وتعين في عمل الإحصاءات المختلفة ، كإحصاءات النفوس ، وإحصاءات الذكور والإناث ، وإحصاءات للأسماء الأكثر وروداً من التي يقل ورودها أو التي قد لا ترد .
23) المشجر تصوير للآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ فيبين تشعب الأنساب ، وانبثاث الأعقاب ، وهو تحقيق للآية ذاتها في التعارف والصلة ، فهي تنمي عاطفة الرحم ، وتشجع الذوق السليم .
24) المشجر يثير فضول الطالب في التعلم ، وهذه الإثارة مهمة لدى التعلم ، كما أنه يثير التفكير التأملي لديه ، وينمي قدراته ومهاراته التفكيرية والعملية من نحو المناقشة العلمية ، والنقد العلمي ، وحل المشكلات والمعضلات .
25) يعد المشجر توثيقاً للدراسات والبحوث التاريخية والإنسانية لدى الباحثين ، كما أنه يمنحها صفة الحيوية .
26) طبقات النسب ظاهرة اجتماعية ، وهذه الظاهرة تمليها عوامل اجتماعية كثيرة ؛ طبيعية وإنسانية ، وهي ـ أي الطبقة ـ تحصل تلقائياً وكأن الإنسان لا يتدخل في حصولها ، مع أن الإنسان عنصر مهم في حصولها ، وعامل من أهم العوامل ، إلا أن الإنسان يجد نفسه وهو مكلل بعصبية ما ؛ هو محاط بها من كل جانب ، هذه العصبية هي عصبية واحدة من عدة عصبيات ، بمعنى أنها طبقة من عدة طبقات من طبقات النسب ، بعضها تعارف الناس على أن تكون لها قاعدة مضطردة ، كالعصبية التي تحصل لأبناء الجد الخامس ، وبعضها إنما تحددها عوامل سسيولوجية وأنثوبولوجية ، وحاصل الأمر أن المشجر يساهم كثيراً في التعرف على طبقات النسب ، ولا سيما لدى دراسة الشعوب البائدة . فالمشجر يُشَخِّصُ طبقات النسب ، ويحدد على السلسلة معالم سيرها .
27) المشجر يفضله غيرُ النسابين ، وهم المثقفون المهتمون بأنساب أسرهم ، وبجمع أفراد قرابتهم لأجل الزيادات التي تطرأ في كل وقت والتي سببها التوالد ، ولكن هذا يجب الحذر من الاكتفاء به ، لأن الولادات لا بد من أن توثق مبسوطة ويفصل فيها القول .

صفات النسابة المشجر:
قلنا آنفاً إن لحفظ النسب طريقتان اثنتان ، والنُّسَّاب ينقسمون في ذلك إلى ثلاث فئات ، نسابون دونوا المبسوطات ، ونسابون شجروا المشجرات ، ونسابون جمعوا بين الطريقتين ، صحيح أن لكل امريء ما يهوى ، ولكن المشجر لا يتقن حفظ النسب به أيُ أحدٍ ، ولذا فإن للنسابة المشجر صفاتٌ يجب أن تكون فيه زيادة على النسابة الذي أسلوبه البسط ، وهذه الصفات التي تحضرنا هي : حسن التخطيط للتشجير . والذوق السليم في ذلك ، مع اللطافة والظرافة .
أما ما كان من الأمانة ، والإتقان ، ووفرة العلم ، وحضور القلب ، والسلامة من الغفلة ، والعدالة .. وغيرها من الصفات ، فهذا مما يجب توفره في كل مزاول لهذه المهنة ، ممن يدعي العلم بالأنساب ، وتصدق فيهم تلك الدَّعوى ، سواء أكان منتسباً للقوم ، أم أنه غير منتسب لهم ، أو كان مولى ، فهذه صفات كل ناسبٍ ، وكل حافظٍ للنسبِ ، من أهل المبسوطات أم المشجرات ، أمَّا المدلسون المندسون ، والوضاعون ، والقصاص ، والأدعياء ، وتجار الأنساب ، فيجب أن يُمنعوا من تعاطي هذا العلم ، ومن مزاولة هذا الفن ، بِسلطان الشَّرع وسلطان الحاكم ، كما هو مقرر في ميثاق النُّسَّابَ.
وربما جمع إنسان أفراد أسرته ثم ذهب بها إلى أحد الخطاطين ممن لا دراية لها بأصول هذا العلم ، فيرسم له مشجرةً تُفسد كل ما عمل ، وتكون تلك المشجرة سبباً لإعجام أنساب أسرته ، ويكون الرسم فيها وحسنه وألوانه كل ذلك على حساب المضمون ، وربما كانت من القبح لدرجة أن لا صورة ولا مادة.

برامج التشجير الألكتروني:
برامج التشجير كانت أمل كل المعتنين بالأنساب ، ووجودها ضروري لأنها تسهل لغير العالم بالنسب رسم مُشجرٍ لأسرته ، ولأجل أنها مرنة في التشجير ، بل وفي التعديل والتصحيح في كل وقت ومتى شاء الإنسان ، ولأجل أنها تحفظ للإنسان وقته وجهده ، وتعصم التشجير من تشابك الأغصان ، أو تصافق الأوراق ، وتشعث الأفنان ، وهو في الحقيقة أفضل من التشجير المعتاد الذي ربما أشكل فيه الخط أو الرسم أو طغى فيه الرسم على المادة العلمية لغرض من الأغراض!

المصدر: موقع ملتقى أهل الحديث.

بواسطة : hashim
 5  0  9155
التعليقات ( 5 )

الترتيب بـ
الأحدث
الأقدم
الملائم
  • #1
    24-05-33 10:05 صباحًا عبد الله :
    جزاكم الله خيراً
    مقال رائع ومفيد
  • #2
    24-05-33 01:48 مساءً ابو وجود الشريف :
    السيد الحسين بن حيدر الهاشمي بارك الله فيك ووفقك ونشكرك على هذا الطرح القيم
    لك تحياتي
  • #3
    26-05-33 01:44 صباحًا الجمازي :
    يعطيك العافية و بارك الله فيك يا سيد حسين على هذا المقال الموجز و الثري
-->